الأحد، 16 يوليو 2017

مجرد ليلة في زنزانة فداء عيتاني

فداء عيتاني: حين دخلت إلى زنزانة النظارة بعد الظهر رحب بي السجناء باسمي، وقد عرفني بعضهم.
كان السجناء يتناولون العشاء، “تفضل، اجلس استاذ”، “كل معنا”. افسح لي السجناء المكان، لم اجلس، شكرتهم، كنت بالكاد ارى امامي في الضوء الباهت الصادر عن لمبة وحيدة معلقة في اعلى طرف الغرفة، قرب مدخل بيت الخلاء الضيق. وتذكرت نصيحة السجانين، رجال الشرطة الذين قالوا لي ان اصطحابي لكتابي لن يسليني، فلا مجال للقراءة في ضوء الغرفة النظارة الخافت.
قدم لي السجناء كوب من المشروب الغازي، وباب الزنزانة لا يزال مفتوحا، ومروحة كهربائية تضخ الهواء الى داخل الغرفة، وكالعادة قمت مباشرة باحتساب المساحة، غرفة من ٣ امتار عرضا، واربعة امتار في افضل الاحوال عرضا، ارتفاع سقفها ثلاثة امتار، فيها فتحتان عاليتان هما مصدر الهواء الطبيعي الوحيد، مع مروحتين صغيرتين لسحب الهواء، احداهما معطلة، ومصدر الهواء الفعلي الوحيد هو الباب الحديدي وفتحته المربعة الصغيرة، التي يطل منها السجانون على مساجينهم.
كان من الواضح تماما ان من يمسك القرار في الزنزانة هو ابو مرعي، الرجل الاربعيني حاد النظرات، القادم من شمال لبنان، وان هذا الخليط غير متجانس وان كان يتناول الطعام معا، الا ان الحذر هو سيد موقف هؤلاء الرجال.
من اللحظة الأولى كانت الحرارة هي اكثر ما يزعج، وصعوبة التنفس، وما ان انتهى المساجين من تناول الطعام حتى اشعلوا سجائرهم، ومن اصل ١١ شخصا مسجونين معا، كان ٩ منا ممن لا يتوقف عن التدخين الا خلال النوم.
بالكاد صدقني السجناء بانني موجود بسبب كتابة سياسية على الفايسبووك، وان من ادعى علي هو جبران باسيل وزير الخارجية لجملة واحدة استفزته بحسب الشكوى المقدمة، الا وهي “بلاد بتسوى جبران باسيل انتو اكبر قدر”.
ضحك السجناء جميعا، ما عدا ابو مرعي الذي حافظ على موقعه كزعيم للزنزانة، فاكتفى بالابتسام، واكتشفت ان شعبية وزير الخارجية طاغية في الزنزانة من مستوى الشتائم التي تناولته وتناولت العهد والحكم، وصولا الى رئيس الحكومة، وحده ابو مرعي سمى القادة السياسيين باسماء عائلاتهم، دون ان يستثني اي شخص.
“امسحوا الارض يا شباب، يا جاك رش ديتول على الارض، حب الله اجلب الممسحة الزرقاء” امر ابو مرعي، وانقطعت الجولة الاولى من الحديث، وقفنا جميعا الى جانب الجدران بينما جاك وحب الله يمسحان الارض، ابو غبرة والديراني وميشال سامي ومحمد وخضر والبقية لم نتحرك، وحده ابو مرعي  استمر باعطاء التعليمات.
كان الشيء الوحيد المسلي لحظتها هو قراءة ما كتب على الجدران، شتائم وشعارات حزبية واكتست الجدران بالسواد والافرازات العرقية التي اصبحت مع مرور الزمن جزءا من الطلاء الاصفر للغرفة، او الذي اتخذ اللون الاصفر نتيجة التدخين المتواصل للسجناء، بينما كانت الارضية شديدة النظافة، وابو مرعي يصر على جاك وحب الله تنظيف كل الزوايا “حتى لا نمرض وتأكلنا الاوساخ”.
“ابو مرعي منذ متى وانت هنا؟” اسأل الرجل، الذي كما الباقين لا يرتدي الا سرواله الداخلي، بينما تعرت اجساد المساجين تخلصا من حر لا يسمح بالتنفس.
“ثلاثة اشهر في التوقيف، بانتظار صدور حكم المحكمة”.
“اربعة اشهر” قال اخر.
شهران، شهر ثلاثة اشهر اسبوعان. الكل هنا دخل على وعد بضعة ايام لتحويله الى قصر العدل او ربما الى سجن اخر، ولكن ازدحام السجون ابقاهم جميعا في غرفة انتظار يفترض الا ينام فيها الموقوفين اكثر من ليلة او ليلتان بانتظار تحويلهم الى سجون المحاكم، للمحاكمة، او الى السجون المركزية في لبنان.
الا ان كثافة الاعتقالات والتوقيفات وترهل اجهزة الدولة الاجرائية من ناحية، والنقص القضائي، والبطء في الاجراءات المعتادة، ادت كلها الى تراكم المساجين، فمن يوقف ربما ينتظر اسابيع طويلة قبل صدور قرار بتركه بكفالة مالية، او سند اقامة حتى.
سخر السجناء حينما اخبرتهم ان توقيفي قد لا يستمر طويلا، وانني من المفترض ان اخرج في اليوم التالي، اشار سامي الى حب الله وشابين اخرين: هؤلاء اخترقوا موقع البحوث العلمية ومنذ اسبوعين ينتظران الافراج عنهم بموجب كفالة مالية.
امسكني الديراني من مرفقي: انا مثلك اوقفت لاسباب سياسية ولكن منذ ثلاثة اشهر ولغاية الان لم يفرج عني، انها السياسة.
ضحك ابو مرعي، بينما قال سامي “نعم انت معارض مخيف للدولة، الحكومة نفسها ترجف منك يا ديراني، ولكن خفف اكاذيب، الزنزانة سخنت بما فيه الكفاية”.
قال لي جاك همسا ان الديراني متهم باغتصاب احدى موظفاته، وانه هنا لان زنازين التوقيف في الطوابق الاخرى مزدحمة.
“ماذا تعنون حين تقولون الزازين مزدحمة؟” سألت وانا بالكاد اتمكن من احتمال الجو الخانق في الغرفة.
“شوف يا استاذ، انا من المالية (الجرائم المالية) النهار تحت (في الطابق الاسفل حيث مقر الجرائم المالية) ممتاز، يمكنك ان تخرج الى غرف الدرك، وتتجول، وتختلط، وتشرب القهوة او تطلب الطعام وتتحدث بالهاتف كل يوم، ولديهم مكيف هواء، ولكن الليل جحيم، في الغرفة ينام حوالي اربعين من السجناء، جزء يقف كل الليل في بيت الخلاء، وينام الباقون متل السيف، ولا مجال للتنفس”. قال ابو مرعي قبل ان يختم “هنا الله راحمنا، نحن فقط ١١ والغرفة جيدة، فقط لو تعمل مراوح شفط الهواء”.
استمرت الليلة تتقدم ببطء، كان الجو السائد من الالفة بحيث تحسب ان هؤلاء الرجال قد انتبهوا الى مدى تشابههم في نظر الدولة والنظام اللبناني، ابو عيسى، الشيعي الذي اتى من اميركا ونشر صورة لامرأة عارية ادعت عليه، شبان يافعون اخترقوا موقعا رسميا على الانترنت، رجل سبعيني اختلس بضعة مئات من الدولارات من الضمان الاجتماعي ولا يجد من يشتري له ادويته الخاصة بالسكري الا رفاق الزنزانة، الديراني الذي توهم بانه يمكن ان يغتصب ويفعل ما يشاء لان هناك من سيخرجه من السجن باتصال هاتفي واحد، سامي الذي فشل في سداد دين المصرف، وابو مرعي الذي حاول خطف شخص لطلب فدية معتقدا ان ما يسري في شرق البلاد يمكن ان يسري على شمالها ايضا، وجاك الذي دخن سيجارة من مخدرات حديثة فسرقة سيارة انطلق بها من شمال البلاد الى وسطها، وعاد وسرق سيارة اخرى ورجع بها الى الشمال، دون اي مبرر او سبب، وحين تم اعتقاله لم يكن يعلم حتى ما الذي فعله.
الا ان هؤلاء وقبيل النوم يشرعون في الصراع، سنة وشيعة، وبينما يؤكد الشيعة بان مستوى حياتهم قد اصبح افضل من كل اللبنانيين الاخرين، وبانهم يملكون قيادة ذكية على عكس قيادات السنة الغبية، يعلن السنة ان الزمن سيدور، وان الدوائر ستطيح بمن يعتقد نفسه ذكيا اليوم، وان غيرهم اعتقد بان البلاد ملكه وانسحق في دورات الحروب.
في هذا الجو يتأفف جاك “كل ليلة نفس الحديث ونفس الكلام، شعب ما بيتعلم ولا بيفهم يقول وهو يحاول الحصول على فسحة اوسع قليلا من المكان المخصص لنومه”
بعد انتصاف الليل وقبيل النوم، تمددنا قرب بعضنا بنومة السيف (النوم على جانب الجسم) نظراً لضيق الزنزانة، فنظر إلي ابو مرعي بنظرة عتب او اسف:”اهذه هي نهاية الصحافيين في لبنان يا أستاذ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق