أخذت بيروت، في تاريخها
الحديث، صورة المدينة المتنوعة والمنفتحة على العالم، التي جذبت إليها شعراء
وروائيين ومسرحيين وفنانين تشكيليين وإعلاميين عرباً، تنفسّوا من
"رئتها" أفكارهم وإبداعاتهم وما كان محظورًا عليهم في بلدانهم. هذه هي
بيروت العربية الجاذبة. بيروت التي دخلت المدونة الإبداعية العربية باسمها ووصفها.
لكن في السنين الأخيرة عرفت بيروت تحوّلات جذريّة ضربت عمق المدينة، وأدت إلى
تبدّل هذه الصورة التاريخية، فلم تعد تلك المدينة الجاذبة، بل يخشى أنها أصبحت
مدينة طاردة لمبدعيها أنفسهم بعدما تدهورت بناها الثقافية والإعلامية، فضلاً عما
تعرفه من حالة استقطاب سياسي إقليمي حاد يفرض استحقاقاته على حياتها اليومية.
هذه التساؤلات المتعلقة
بدور بيروت التاريخي كحاضن وملجأ للمثقفين العرب الهاربين من عسف أنظمتهم، نطرحها،
هنا، في هذا التحقيق على عدد من الكتاب والمثقفين والناشرين، وفيها كلام لكل من
عباس بيضون (الشاعر والناقد، رئيس ملحق السفير الثقافي، الصحيفة المتوقفة اليوم عن
الصدور)، وصقر أبو فخر (الكاتب والباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة
السياسات)، ويوسف بزي (الشاعر والكاتب، مدير ملحق نوافذ، الذي كان يصدر عن صحيفة
المستقبل).
هنا حلقة أولى:
هنا حلقة أولى:
من تصدير الثقافة إلى
المتاجرة بها
عباس بيضون
كانت بيروت هي المدينة
الديمقراطيّة الوحيدة في العالم العربي. فـ"الحرية" هي نقطة الاستقطاب
التي جذبت المثقفين العرب إليها، فكانت منفذًا لكلّ مثقفٍ يهرب من استبداد حكومته،
ولا سيما أنّ الأنظمة العربية التي سادتها الطُغم العسكرية، اصطدمت مع المثقفين
الذين رفضوا استبدادها، فعارضوها في سرّهم وعلنهم، وكان لا بدّ لهذه الأنظمة أن
تجد نفسها في وجه المثقفين الذين رفضوا الاستتباع لها وتبنّي أفكارها، فضيّقت
عليهم وطاردتهم، إلى أن وجدنا عددًا منهم يهرب إلى بيروت.
لكنّ هذه المدينة، لم تكن
مجرّد وسيطٍ في الصراع بين المثقفين العرب وحكوماتهم، وإنّما، استطاعت أن تلعب
دورًا ثقافيًّا في المنطقة، استفادت فيه من تعددها الإثني والطائفي والسياسي، سمح
لها بدرجة كبيرة من الاختلاف والتنوع، فتعلق بها المثقفون الذين وجدوا فيها منارةً
ثقافيّة، ورمزًا للحريّة الثقافية والثقافة الحرّة.
أمّا ما تغيّر اليوم، فهو
أنّ هذه المدينة التي كانت تصدّر الثقافة، لم تعد تستهلكها بنفس النسبة، بل إنّ
هذا التصدير، جعلها في وقت من الأوقات، مكانًا لتجارة ثقافية، أيّ إنّها تحولت إلى
مكانٍ يخدم نظريات وأفكار وثقافات ما. فبعد أن كانت بيروت محلًا للتسويق والترويج
الثقافي، لم تعد الحاجة لهما مهمّة عبر السنين. ذلك أنّ لبنان الذي عرف حربًا
أهليّة ضارية، وكان المتحاربون فيه متعصبين لأفكارهم وإيماناتهم وعقائدهم، تحول
إلى طوائف وأصبح جمهور كلٍّ منها متقوقعًا ومتشددًا لنفسه ومصالحه وغاياته، وغير
متقبل لأفكار الآخرين واختلافهم، ففقد التسويق الثقافي قيمته، لأنّ هذه
الجماهير، كانت تستمد عقائدها ونظرياتها من بيئتها ومن حولها.
هذه التحولات في الداخل
اللبناني، انساق مفعولها إلى الصحف التي فقدتْ جمهورها المباشر والخاص، فانحطّ عدد
القراء إلى أقلّ من الربع، فما كان أمام الصحف إلّا أن تستثمر الانقسام المنهجي والطائفي
بالألفاظ والخطابات السياسيّة، ولم تعد تقيم وزنًا للثقافة الحقيقيّة، فلكل فئة في
لبنان راديوها وتلفزيونها وصحيفتها ومنبرها الإعلامي، تنشر عصبياتها وأفكارها، فلا
تحتاج إلى صحيفةٍ أخرى، ولا لأيّ تنوّع فكري وثقافي. فبيروت، خسرتْ دورها الثقافي
منذ زمنٍ بعيد. والأرجح أنّ الدول الممولة وعت هذا الشيء وانتبهتْ أن هذه الصحف
صارت تقريباً بلا جمهور وبلا هيبة، فأمسكت عن تمويلها ودعمها.
هكذا، نتبيّن أنّ الفجوة
الواقعة بين المثقف العربي وبيروت، ليست في خسارة الملاحق الثقافيّة التي لا يمكن
نكرانها، وإنّما في الصحافة نفسها التي عكست الانقسام الطائفي والسياسي، فتحولت
إلى منبرٍ ترويجي لإرضاء مموّيليها والقائمين عليها، بعد أن كانت قبل الحرب
الأهليّة، ذات قيمة ثقافيّة فريدة وحرّة.
بيروت مدينة البدايات
صقر أبو فخر
ما عادت بيروت ملجأ
للمثقفين العرب، ليس اليوم فحسب، بل منذ نحو خمس وثلاثين سنة، أي منذ الاجتياح
الإسرائيلي للبنان في عام 1982. قبل ذلك كانت بيروت مثل روما بعد سقوط القسطنطينية
في سنة 1453 حين لم يبقَ في القسطنطينية عاصمة العالم القديم إلا القليل من
العلماء والفنانين والأدباء والمفكرين الذين تقاطروا على روما، وساهموا في نهضتها
المتألقة وجعلوها عاصمة للعالم الجديد. أما بيروت فلم تشهد ازدهاراً حقيقياً إلا
فترة قصيرة لا تتجاوز ربع قرن من الزمان فقط، أي منذ عام 1950 حتى عام 1975.
وعمران بيروت مدين لعنصرين رئيسين هما: النكبة الفلسطينية في عام 1948 التي أدت
إلى تدفق أموال الأغنياء الفلسطينيين على لبنان ومعها الأيدي العاملة المدربة
أيضاً، وتحوُّل تجارة شرق المتوسط إلى ميناء بيروت ومطارها. وفي ما بعد، راحت
البرجوازية السورية تنقل أموالها إلى لبنان كلما وقع انقلاب عسكري في دمشق، ثم
انتقلت بأموالها وأعمالها مرة واحدة إلى لبنان عشية الوحدة المصرية – السورية في
عام 1958، لتطلق فورة عمرانية لم تهدأ إلا في نهاية ستينيات القرن المنصرم.
في معمعان تلك الأحداث
المتفاعلة باتت بيروت، ملجأ حقيقياً للمثقفين العرب الذين كانت بلادهم تضيق
بأفكارهم، وتحولت بالتدريج، إلى موئل لكل مبدع أو صاحب رأي. وتجسد النعيم البيروتي
آنذاك، أكثر ما تجسد، في الاقتصاد الذي كان للفلسطينيين والسوريين الشأن البارز
فيه، ثم في الثقافة والصحافة والفنون والبحث العلمي. غير أن بيروت التي أصبحت منذ
عام 1982 "الفردوس المفقود" للمثقفين العرب، ونُسجت على فقدانه قصائد ومنادب
ومدائح شتى، لم تطل حقبتها الجميلة والفريدة إلا ربع قرن، أو ثلاثين سنة على أبعد
تقدير، وانحصرت الحداثة والمعاصرة التي انطلقت من بعض نواحيها في منطقة محدودة هي
رأس بيروت وجوارها.
خلت بيروت أو كادت تخلو
من المثقفين العرب بين 1982 و 1992، وفي تلك الحقبة لم تنتج بيروت أي أعمال فكرية
أو ثقافية أو فنية مهمة. وبعد عام 1992 بدأ بعض المثقفين العرب يترددون على
المدينة أو يقيمون فيها، فتحركت بعض عناصر الثقافة فيها جراء كتابات العرب في
صحافتها خصوصاً في الملاحق الثقافية وفي صفحات الرأي التي ازدهرت في "السفير"
و"النهار" وحتى "الحياة"، ووجد الكُتّاب السوريون في
"النهار" و"السفير" بالدرجة الأولى منبرين مهمين للتعبير عن
آرائهم النقدية المعارضة في كثير من الأحيان للنظام السياسي في بلدهم. واللافت أن
الكُتّاب السوريين كانوا الأكثر شجاعة في عرض أفكارهم، الأمر الذي شجع الكتاب
اللبنانيين على عدم الخوف من نقد النظام السوري ونقد الوجود السوري في لبنان.
اليوم، هناك وجود كثيف
جداً للفنانين السوريين في لبنان، خصوصاً في حقلي الدراما والغناء،
فضلاً عن المسرح والفنون التشكيلية، لكن هؤلاء جميعاً غادروا بلادهم إلى
لبنان مرغمين جراء الحرب، وليس باختيارهم الحر. ووجودهم موقت، بمعنى أن بيروت
هي الآن مجرد محطة قبل الرحيل إلى الغرب أو العودة إلى الديار الأصلية، ولا سيما
أن المواطن السوري يتعرض في لبنان إلى تضييق شديد في الإقامة والعمل، ما يجعل
الفرار من لبنان غاية لكل مثقف في هذا البلد المنكوب بالعنصرية المتجددة، والموبوء
بكراهية الغرباء. وقد ساهم اندثار الصحافة اللبنانية المكبوتة في فقدان ميزة
أساسية من مميزات المدينة وهي منابر الرأي، الأمر الذي جعل جاذبية بيروت لدى
المثقف العربي تفقد كثيراً من بريقها ولمعانها، وجعل بيروت نفسها تخسر تألقها وتجربتها
الفريدة وتميزها، وهي عناصر نُسجت طوال خمس وعشرين سنة بين 1950 و1975 بأيدي
ومفكرين وكُتّاب ومثقفين وصحافيين لبنانيين وسوريين وفلسطينيين، بالدرجة الأولى،
وعراقيين ومصريين بدرجة أقل، ثم عاشت على أصداء تلك التجربة خمساً وثلاثين سنة
إضافية (1982-2017). ولا إخال أن ما فُقد يمكن أن يُستعاد. والمؤكد أن ما ضاع من
التجربة البيروتية من المحال أن ينبثق مجدداً، لكن من الممكن البدء دائماً من
جديد.
"معنى" بيروت
الضائع
يوسف بزي
لأسباب معلومة، بيروت من
المدن القليلة المحببة للمثقفين العرب. غالباً ما يشعرون بعلاقة خاصة بها. وعلى
الأرجح، ارتبط طموح الحرية (بمعناها السياسي والاجتماعي والثقافي، الفردي والعام)
بهذه المدينة المطلة على البحر والناظرة غرباً، نقطة عبور وتقاطع واتصال، بقدر ما
هي مكان إقامة واجتماع واختلاط.
وهي أولاً، عاصمة لجمهورية
ضعيفة، قامت على صيغة سياسية دستورية، سيئاتها كثيرة، لكن حسنتها الأبرز امتناع
الاستبداد والديكتاتورية فيها. وهذا كله معطوفاً على إرث ليبرالي في السياسة
والاقتصاد، ساهم إلى حد بعيد أن تكون صحافتها ليست ملكاً للدولة أو لا تستتبعها
وزارة إعلام، وبالطبع لا تحتل صورة رئيس الدولة صفحتها الأولى يومياً. كما ساهم
هذا الإرث وتلك الصيغة في حياة ثقافية لا وصاية عليها تقريباً، تتحرك وفق مبدأ
المبادرة الفردية والهوى الشخصي. وهذا أتاح قيام بنية ثقافية مستقلة ورحبة تتسق
تماماً مع مزاج المدينة ونسيجها الاجتماعي، "الكوزموبوليتي" الطابع إلى
وقت قريب.
والمعلوم، أن لبنان ما
بعد الحرب (ابتداء من عام 1990) دخل في عهدة "وصاية" النظام السوري،
الذي برع في إدارة المنازعات الأهلية واستدامتها، وأمعن إفساداً وتخريباً في
السياسة والاجتماع والاقتصاد والإعلام... وأصاب الدولة وإداراتها بأعطاب من الصعب
إصلاحها، وأعانته في ذلك الجماعات الأهلية - المعتصبة بدعاوى "المقاومة"
و"الممانعة" و"العروبة" والسلاح – في إرساء أخلاق النهب
والاستيلاء والغنيمة والمحاصصة والزبائنية..إلخ.
وعلى الرغم من لحظة
"انتفاضة الاستقلال" عام 2005 ونجاحها في إجلاء الجيش السوري وجهازه
الاستخباراتي عن لبنان، فقط ورث "حزب الله" تلك "الوصاية"
وجددها بالعنف والسلاح على اللبنانيين ودولتهم، مستثمراً خوفهم من "حرب
أهلية" يدفعونها عن أنفسهم كل يوم، بثمن مهادنة هذا الحزب وسلاحه وخضوعهم
لإملاءاته.
تاريخ مثل هذا، على
امتداد حروب ووصايتين عنيفتين، أحال لبنان دولة مستتبعة، هزيلة وناقصة السيادة.
واستهلك هذا البلد رصيده التاريخي، وبدد فرص نضوج ديموقراطيته، وأصاب الفوات
"حداثته"، وتضاءلت قيم الليبرالية إلى مساحات وبؤر قليلة وضعيفة الأثر.
ويجوز هذا التوصيف في مجالات التعليم والصحافة والفنون والعمران وآداب العمل
والسلوك والمظهر والعلاقات..إلخ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق