بعدما كانت
سوريا موزّعة بين عدّة ولايات خلال الحقبة العثمانيّة (1516-1918)، وبعد تقسيمها
إلى أربعة دول خلال الانتداب الفرنسيّ (1920-1945)، اتّخذت هذه البلاد شكلها
الحاليّ في ظلّ المعاهدة الفرنسيّة السوريّة الموقّعة في باريس في 9 أيلول 1936،
عندما دُمجت “دولة دمشق المستقلّة” و “حكومة حلب”، اللتان كانتا قد توحّدتا عام
1923، مع “دولة العلويّين المستقلّة”و “جبل الدروز” في كيان واحد، هو كيان
الجمهوريّة السوريّة.
لم يوافق قسم من العلويّين على هذا الاندماج. تحتوي سجلات وزارة الخارجية الفرنسية على مستندات تُظهر تردّدهم تجاه هذا الكيان الجديد. ففي رسالتين وجَّههما عام 1936 الأعيان العلويّون إلى الرئيس اللبنانيّ آنذاك إميل إدّه، وإلى البطريرك الماروني أنطوان عريضة، اقترحوا ضمّ المنطقة العلويّة إلى دولة “لبنان الكبير” التي كان أعلنها الجنرال غورو في الأوّل من أيلول 1920 والتي اعتبرها الموارنة «خاتمة نضالهم» و «تحقيقًا لحلمهم التاريخيّ». وفي مذكّرة (رقم 3547) رفعها الوجهاء أنفسهم إلى رئيس الوزراء الفرنسيّ ليون بلوم في 15 حزيران 1936، رفضوا دمج منطقتهم في دولة سوريّة يسيطر عليها السنّة. ففي لتلك الوثيقة، يعتبر الموقّعون «الشعب العلويّ» مختلفًا عن «الشعب المسلم السنّي»، «بمعتقداته الدينيّة وعاداته وتاريخه». إنّ «الشعب العلوي يرفض أن يُلحق بسوريا المسلمة» لأنّ الدين الإسلامي: «دين الدولة الرسميّ»، ويعتبر العلويّين «كفّارًا». وقد تُرجم هذا الرفض في بداية عام 1939 بتمرّد انفصاليّ في المنطقة العلويّة ضدّ السلطة المركزية السوريّة في دمشق. لكنّ الانتفاضة فشلت.
وبالتوازي مع التيّار الانفصاليّ، كان هناك بين العلويّين تيّارٌ آخر يتكوّن من مثقّفين ومناضلين كانوا يشاركون شخصيّات أخرى من مختلف الطوائف الموجودة في سوريا ولبنان نفس التطلّعات القوميّة العربيّة. إحدى الشخصيّات الأولى لهذا التيّار كانت زكي الأرسوزي. فقد عاد الأرسوزي إلى سوريا بعد أن أكمل دراسته للفلسفة في فرنسا، وأصبح عام 1932 مدرِّسًا في سنجق الإسكندرونة. وكونه مُدافعًا شرسًا عن العروبة، فقد أسّس عام 1934 حزب البعث العربيّ. وفي عام 1938 وصل إلى دمشق بعد أن طردته سلطات الانتداب الفرنسيّة من الإسكندرونة، فأعلن انبعاث الأمّة العربيّة وجمع الكثيرين من الشبّان حول أفكاره.
بالموازاة مع نشاط الأرسوزي السياسيّ، انخرط شابّان مثقّفان سوريّان في دمشق في الحياة السياسيّة حثّا على البعث العربيّ. أوّلهما ميشال عفلق، من طائفة الروم الأرثوذكس وحاصل على شهادة جامعيّة في التاريخ من السوربون، وثانيهما صلاح البيطار، وهو سنّي حاصل على شهادة جامعيّة في الرياضيّات، فنجحا في جمع عددٍ من المدرِّسين والطلاّب حولهما. وفي عام 1942 أطلقا على مجموعتهما اسم “حركة البعث”، ما أثار ردّة فعل غاضبة من جانب الأرسوزي، الذي رأى أنّ اسم الحركة قد انتُشل منه. ورغم محاولات المصالحة بين عفلق والأرسوزي، إلا أنّ الرجلين بقيا على خلاف في مواقفهما. لكنّ هذا لم يمنع عددًا كبيرًا من أتباع الأرسوزي، بمن فيهم وهيب غانم وحافظ الأسد، من أن ينضمّوا إلى حركة البعث التي أسّسها عفلق وبيطار، خصوصًا بعد انسحاب الأرسوزي من الحياة السياسيّة. وقد أُعطيت الحركة في بداية عام 1945 اسمًا جديدًا هو “حزب البعث” الذي جمع “الأرسوزيّين”، من بينهم عددٌ لا بأس به من الشبّان العلويّين، و“العفلقيّين”.
وغداة انسحاب القوّات الفرنسيّة والإنكليزيّة من سوريا في نهاية شهر كانون الأوّل 1946 وقبيل إعلان استقلال الجمهوريّة السوريّة، حضر 247 شابًّا من جميع مناطق سوريا ولبنان والعراق وشرقي الأردن، المؤتمر الأوّل لحزب البعث الذي عُقد في 4 نيسان 1947. وانتخب أعضاء المؤتمر ميشال عفلق رئيسًا للحزب وعيّنوا لجنة تنفيذيّة، واعتمدوا دستورًا لهم. ويُعتبر هذا التاريخ التاريخ الرسميّ لتأسيس “حزب البعث العربيّ”.
عرفت سوريا، في السنوات الأولى من استقلالها، نشاطًا ديمقراطيًّا بارزًا وكذلك تعدّديّة سياسيّة ترجمها نشوء العديد من الأحزاب. فبالإضافة إلى حزب البعث، احتلّت الحلبة السياسيّة ستّة أحزاب أخرى، من بينها الحزب الوطنيّ، الذي تشكّل في عام 1947، وهو وليد الكتلة الوطنيّة التي تأسّست عام 1927 بهدف تحقيق الوحدة العربيّة واستقلال سوريا. وكان يضمّ عددًا من الشخصيّات الشهيرة مثل شكري القوتلي وفارس الخوري وجميل مردم، فضلاً عن غيرهم من ممثّلي العائلات التي كانت تتركّز في أيديها ثروة البلاد، وخاصّةً في دمشق. أمّا الحزب الثاني فهو حزب الشعب، وقد نشأ من انقسام داخل الحزب الوطني وكان يضمّ شخصيّات تمثِّل المصالح الاقتصاديّة لحلب والمنطقة الشماليّة من البلاد. والحزب الثالث هو الحزب السوريّ القوميّ الذي أسّسه أنطون سعادة عام 1932، وكان مشروعه “سوريا الكبرى”، التي تضمّ سوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردنّ والعراق وقبرص. وكان للإخوان المسلمين، الذين تأسّست حركتهم في مصر عام 1928 على يد حسن البنّا، متعاطفون في سوريا، لا سيّما في حماه وحمص ودمشق وحلب. وكانت الشيوعيّة أيضًا ممثَّلة على الساحة السياسيّة من خلال الحزب الشيوعيّ السوريّ، بقيادة شخصيّة خالد بكداش المحوريّة . وأخيرًا، تم تأسيس الحزب العربيّ الاشتراكي على يد أكرم حوراني عام 1950. فقرّر حزب البعث العربيّ الاندماج مع هذا الحزب، في مؤتمره الثاني في حزيران 1954، ما شكّل حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ.
من ناحية أخرى، فقد كان لموقع سوريا الجغرافي – وسط مصر وبلاد ما بين النهرين وآسيا الصغرى وشبه جزيرة العرب والمتوسّط - أثراً كبيراً في جعل تحويل سوريا "مفتاحاً" للشرق. وعليه بات هذا الكيان منذ نشأته في أربعينيات القرن العشرين موضعاً للنزاع ما بين قطبي السياسة العربية آنذاك: العراق ومصر. وقد كان كلّ من هاتين الدولتين ترى في السيطرة على سوريا سبيلاً لتكريس زعامتها على كجمل الدول الناطقة بالعربية. بالإضافة إلى هذا النزاع الاقليمي فقد كانت سوريا أيضاً مجالاً للنزاع الدولي ذلك أن العديد من المعارك السياسية الحاسمة دارت في مجالها السياسي ومن أهمها معركة إسقاط مبدأ إيزنهاور عام 1958.
انتقل التنافس بين القوى الإقليميّة والدوليّة تدريجيًّا من التنافس الديمقراطيّ البسيط إلى الانقلابات العسكريّة العنيفة التي قادها جنرالات الجيش السوريّ. وتدلّ الانقلابات السبع التي قادها الضبّاط بين آذار 1949 وآذار 1963، والاتّحاد مع مصر بين شباط 1958 وأيلول 1961، بوضوح على دور الجيش المتزايد. أمّا بالنسبة لعلاقات حزب البعث مع الناصريّة، فقد تمّ إنشاء لجنة عسكريّة بعثيّة مؤلّفة من خمسة أعضاء، ثلاثة منهم علويّون، هم محمّد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد. وقد عارض هؤلاء سياسة عفلق مُتهمّينه بالموافقة على “مصرنة” سوريا. وبعد أن تبيّن في أيلول 1961 فشل الجمهوريّة العربيّة المتّحدة، أعدّت هذه اللجنة سرًّا انقلابًا عسكريًّا مزدوجًا ضدّ الحكم السوريّ وضدّ المكتب السياسيّ لحزب البعث الذي يرأسه عفلق.
شهدت الستّينيّات ظهور العلويّين وتصاعد دورهم، وخاصّةً جنرالاتهم، على واجهة المسرح البعثيّ والسوري. ففي 8 آذار 1963 نجح انقلاب اللجنة العسكريّة البعثيّة. وبعد إزاحة الناصريّين والشيوعيّين، دخلت اللجنة، التي يسيطر عليها صلاح جديد وحافظ الأسد، في مواجهة مع الزعيم التاريخيّ لحزب البعث، ميشال عفلق. وبعد ثلاث سنوات، بين 21 و 25 شباط 1966، قامت اللجنة بانقلاب ثانٍ ضدّ عفلق، وتمّ تعليق الدستور وإقامة نظام جديد كرّس الدمج التام بين البعث والسلطة: «السلطة هي البعث»، وأقسى التيار العفلقي من الحزب والدولة.
رغم ذلك لم يتأخّر ظهور الصراع على السلطة بين القائدين الجديدين جديد والأسد. فقد برزت المنافسة بينهما في أعقاب هزيمة الجيش السوريّ خلال الحرب الاسرائيليّة العربيّة في حزيران 1967، والتي أدّت إلى خسارة هضبة الجولان. وتُضاف إلى الهزيمة الجدالات الإيديولوجيّة بين المجموعة التي يرأسها جديد، الذي كان يتطلّع إلى عقيدة ماركسيّة راديكاليّة، والمجموعة التي يرأسها الأسد، الذي كان همّه الرئيسيّ إعادة بناء الجيش السوريّ من دون مضاعفة الاعتماد على الاتّحاد السوفياتي. وكانت هذه المجموعة تريد التعاون الاقتصاديّ والعسكريّ مع الدول العربيّة الأخرى من دون فرض نهج ماركسيّ أو تقدّميّ عليها.
وجاءت أحداث أيلول الاسود حيث قضى الملك الأردنيّ حسين على المقاومة الفلسطينية في الأردن، في أيلول 1970، ومحاولةٌ صلاح جديد استخدام الجيش السوريّ إلى جانب الفلسطينيّين، وهو ما عارضه الأسد، لتفسد نهائيًّا العلاقات بين زعيمي سوريا. ودفع هذا الوضع، الذي تفاقم بعد وفاة عبد الناصر، الأسد إلى أخذ المبادرة. فاعتقل الأعضاء الموالين لجديد وتولّى قيادة الفرق العسكريّة الأكثر أهميّة. وفي 19 تشرين الأوّل 1970 أمر جنوده بتطويق مكاتب الجناح المدنيّ لحزب البعث، وألقى القبض في اليوم التالي على القيادات الأبرز، بمن فيها جديد. ومنذ ذلك الحين ركّز الأسد بين يديه جميع سلطات البعث والحكومة السوريّة، وعيّن أحد أتباعه، أحمد الخطيب، على رأس الدولة السوريّة. وإذ كان يدرك أنّ ارتقاء علويّ إلى رئاسة الجمهوريّة كان ليصدم مشاعر السنّة السوريّين (الذين يعتبرون العلويّين غير مسلمين)، طلب الأسد من الإمام الشيعيّ اللبنانيّ موسى الصدر، وكان صديقه، إصدار فتوى يُعلن فيها أنّ العلويّين مسلمون شيعة. وأصبح الأسد، بعد أن طرح 173 عضوًا في مجلس الشعب اسمه كمرشّح للرئاسة، رئيسًا للجمهوريّة في 12 آذار 1971 عقب استفتاء شعبيّ. وقد أطلق الأسد على هذه العملية إسم “الحركة التصحيحيّة”. وفي عام 1973، شرع بإجراء تعديل في الدستور السوريّ بهدف حذف البند الذي ينصّ على أنّ رئيس الجمهوريّة يجب أن يكون من الدين الإسلاميّ. فواجهته معارضة شديدة من جانب العلماء السنّة السوريّين الذين هدّدوه بتعبئة الجماهير الإسلاميّة ضدّه. أمّا بالنسبة للسياسة العسكريّة، فقد تّحكم الأسد بقبضة من حديد بكلّ ما له علاقة بالجيش. ونتيجةً لهذه السياسة، احتلّ ضبّاط علويين أو من السنّة والمسيحيّين البعثيّين الذين أظهروا ولاءً قويًّا للأسد المراكز العليا في الجيش بشكل حصريّ. ولم يُسمح لأخصام حزب البعث، على الأخصّ لجماعة الإخوان المسلمين، بالتقدّم إلى المدرسة الحربيّة. وطُبّقت نفس الإجراءات في تجنيد أعضاء المخابرات. وقد انتقل هذا النظام من الأب إلى الابن. وإذ أدرك أهميّة الجيش، استطاع الرئيس الحاليّ بشّار الأسد أن يستمرّ في السيطرة عليه. فلا وحدة عسكريّة يتمّ استنفارها من دون موافقته، كما يدلّ على ذلك التحدّي الذي يواجهه الجيش منذ اندلاع الأحداث في سوريا، في آذار 2011.
في ظلّ قيادة الأسد بالذات تحوّلت سوريا، التي كانت حتّى ذلك الوقت موضع نزاع بين القوى الإقليميّة والدوليّة، إلى قوّة إقليميّة فعّالة تؤثّر على كامل مساحة الشرق الأوسط. وكون الأسد قد أقام سلطة مركزيّة قويّة في دمشق وفرض سلطته بكلّ الوسائل، بما في ذلك العنف، على كامل المناطق المجاورة، فقد نجحت عائلته في تحويل سوريا إلى نقطة التقاء جوهريّة لتحالفٍ سياسيّ وعسكريّ وجيوستراتيجيّ يمتدّ من إيران وصولا إلى حزب الله في لبنان مرورًا بالعراق. وقد رأى زعماء المنطقة السنّيون، كالملك عبد الله في الأردن والرئيس المصريّ السابق حسني مبارك والعاهل السعوديّ الملك عبد الله، في هذا التحالف تحالفًا شيعيًّا سمّوه “الهلال الشيعي”. هذا التحالف ندَّدت به الولايات المتّحدة، واعتبرته جزءًا من “محور الشرّ”.
إذن لا يمكن فهم ما يجري حاليًّا في سوريا بشكل أفضل إلا في سياق التنافس الجيوسياسيّ بين الولايات المتّحدة وحلفائها من جهة، وإيران وحلفائها من جهة أخرى، والذي يفاقمه غليان طائفيّ من جانب اليهود والسنّة والشيعة. وإذا أضفنا إلى هذا الصراع لعبة النفط والغاز، حيث يُقدَّر لسوريا أن تكون منتجاً وممراً للنفط والغاز الشرق الأوسطي، ودخول روسيا والصين إلى هذا الصراع حيث يتداخل فيه العامل الديني والطائفي بالعامل الجيوسياسي وبعامل الطاقة، يصبح الموقف في سوريا شديد التعقيد ومفتوح على كل الاحتمالات. وقد دلّت الاحداث الاخيرة أن الأزمة السوريّة لم تعد شأنا داخليًّا بين المعارضة السوريّة من جهة، والنظام البعثيّ من الجهة الأخرى، ولا مواجهة إقليميّة بين المحور السنّي من جهة والمحور الشيعيّ من جهة أخرى، بل أصبحت مسألة يمكن أن تغيِّر التوازن الدوليّ الذي تأسّس في أعقاب انهيار الاتّحاد السوفياتي.
لم يوافق قسم من العلويّين على هذا الاندماج. تحتوي سجلات وزارة الخارجية الفرنسية على مستندات تُظهر تردّدهم تجاه هذا الكيان الجديد. ففي رسالتين وجَّههما عام 1936 الأعيان العلويّون إلى الرئيس اللبنانيّ آنذاك إميل إدّه، وإلى البطريرك الماروني أنطوان عريضة، اقترحوا ضمّ المنطقة العلويّة إلى دولة “لبنان الكبير” التي كان أعلنها الجنرال غورو في الأوّل من أيلول 1920 والتي اعتبرها الموارنة «خاتمة نضالهم» و «تحقيقًا لحلمهم التاريخيّ». وفي مذكّرة (رقم 3547) رفعها الوجهاء أنفسهم إلى رئيس الوزراء الفرنسيّ ليون بلوم في 15 حزيران 1936، رفضوا دمج منطقتهم في دولة سوريّة يسيطر عليها السنّة. ففي لتلك الوثيقة، يعتبر الموقّعون «الشعب العلويّ» مختلفًا عن «الشعب المسلم السنّي»، «بمعتقداته الدينيّة وعاداته وتاريخه». إنّ «الشعب العلوي يرفض أن يُلحق بسوريا المسلمة» لأنّ الدين الإسلامي: «دين الدولة الرسميّ»، ويعتبر العلويّين «كفّارًا». وقد تُرجم هذا الرفض في بداية عام 1939 بتمرّد انفصاليّ في المنطقة العلويّة ضدّ السلطة المركزية السوريّة في دمشق. لكنّ الانتفاضة فشلت.
وبالتوازي مع التيّار الانفصاليّ، كان هناك بين العلويّين تيّارٌ آخر يتكوّن من مثقّفين ومناضلين كانوا يشاركون شخصيّات أخرى من مختلف الطوائف الموجودة في سوريا ولبنان نفس التطلّعات القوميّة العربيّة. إحدى الشخصيّات الأولى لهذا التيّار كانت زكي الأرسوزي. فقد عاد الأرسوزي إلى سوريا بعد أن أكمل دراسته للفلسفة في فرنسا، وأصبح عام 1932 مدرِّسًا في سنجق الإسكندرونة. وكونه مُدافعًا شرسًا عن العروبة، فقد أسّس عام 1934 حزب البعث العربيّ. وفي عام 1938 وصل إلى دمشق بعد أن طردته سلطات الانتداب الفرنسيّة من الإسكندرونة، فأعلن انبعاث الأمّة العربيّة وجمع الكثيرين من الشبّان حول أفكاره.
بالموازاة مع نشاط الأرسوزي السياسيّ، انخرط شابّان مثقّفان سوريّان في دمشق في الحياة السياسيّة حثّا على البعث العربيّ. أوّلهما ميشال عفلق، من طائفة الروم الأرثوذكس وحاصل على شهادة جامعيّة في التاريخ من السوربون، وثانيهما صلاح البيطار، وهو سنّي حاصل على شهادة جامعيّة في الرياضيّات، فنجحا في جمع عددٍ من المدرِّسين والطلاّب حولهما. وفي عام 1942 أطلقا على مجموعتهما اسم “حركة البعث”، ما أثار ردّة فعل غاضبة من جانب الأرسوزي، الذي رأى أنّ اسم الحركة قد انتُشل منه. ورغم محاولات المصالحة بين عفلق والأرسوزي، إلا أنّ الرجلين بقيا على خلاف في مواقفهما. لكنّ هذا لم يمنع عددًا كبيرًا من أتباع الأرسوزي، بمن فيهم وهيب غانم وحافظ الأسد، من أن ينضمّوا إلى حركة البعث التي أسّسها عفلق وبيطار، خصوصًا بعد انسحاب الأرسوزي من الحياة السياسيّة. وقد أُعطيت الحركة في بداية عام 1945 اسمًا جديدًا هو “حزب البعث” الذي جمع “الأرسوزيّين”، من بينهم عددٌ لا بأس به من الشبّان العلويّين، و“العفلقيّين”.
وغداة انسحاب القوّات الفرنسيّة والإنكليزيّة من سوريا في نهاية شهر كانون الأوّل 1946 وقبيل إعلان استقلال الجمهوريّة السوريّة، حضر 247 شابًّا من جميع مناطق سوريا ولبنان والعراق وشرقي الأردن، المؤتمر الأوّل لحزب البعث الذي عُقد في 4 نيسان 1947. وانتخب أعضاء المؤتمر ميشال عفلق رئيسًا للحزب وعيّنوا لجنة تنفيذيّة، واعتمدوا دستورًا لهم. ويُعتبر هذا التاريخ التاريخ الرسميّ لتأسيس “حزب البعث العربيّ”.
عرفت سوريا، في السنوات الأولى من استقلالها، نشاطًا ديمقراطيًّا بارزًا وكذلك تعدّديّة سياسيّة ترجمها نشوء العديد من الأحزاب. فبالإضافة إلى حزب البعث، احتلّت الحلبة السياسيّة ستّة أحزاب أخرى، من بينها الحزب الوطنيّ، الذي تشكّل في عام 1947، وهو وليد الكتلة الوطنيّة التي تأسّست عام 1927 بهدف تحقيق الوحدة العربيّة واستقلال سوريا. وكان يضمّ عددًا من الشخصيّات الشهيرة مثل شكري القوتلي وفارس الخوري وجميل مردم، فضلاً عن غيرهم من ممثّلي العائلات التي كانت تتركّز في أيديها ثروة البلاد، وخاصّةً في دمشق. أمّا الحزب الثاني فهو حزب الشعب، وقد نشأ من انقسام داخل الحزب الوطني وكان يضمّ شخصيّات تمثِّل المصالح الاقتصاديّة لحلب والمنطقة الشماليّة من البلاد. والحزب الثالث هو الحزب السوريّ القوميّ الذي أسّسه أنطون سعادة عام 1932، وكان مشروعه “سوريا الكبرى”، التي تضمّ سوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردنّ والعراق وقبرص. وكان للإخوان المسلمين، الذين تأسّست حركتهم في مصر عام 1928 على يد حسن البنّا، متعاطفون في سوريا، لا سيّما في حماه وحمص ودمشق وحلب. وكانت الشيوعيّة أيضًا ممثَّلة على الساحة السياسيّة من خلال الحزب الشيوعيّ السوريّ، بقيادة شخصيّة خالد بكداش المحوريّة . وأخيرًا، تم تأسيس الحزب العربيّ الاشتراكي على يد أكرم حوراني عام 1950. فقرّر حزب البعث العربيّ الاندماج مع هذا الحزب، في مؤتمره الثاني في حزيران 1954، ما شكّل حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ.
من ناحية أخرى، فقد كان لموقع سوريا الجغرافي – وسط مصر وبلاد ما بين النهرين وآسيا الصغرى وشبه جزيرة العرب والمتوسّط - أثراً كبيراً في جعل تحويل سوريا "مفتاحاً" للشرق. وعليه بات هذا الكيان منذ نشأته في أربعينيات القرن العشرين موضعاً للنزاع ما بين قطبي السياسة العربية آنذاك: العراق ومصر. وقد كان كلّ من هاتين الدولتين ترى في السيطرة على سوريا سبيلاً لتكريس زعامتها على كجمل الدول الناطقة بالعربية. بالإضافة إلى هذا النزاع الاقليمي فقد كانت سوريا أيضاً مجالاً للنزاع الدولي ذلك أن العديد من المعارك السياسية الحاسمة دارت في مجالها السياسي ومن أهمها معركة إسقاط مبدأ إيزنهاور عام 1958.
انتقل التنافس بين القوى الإقليميّة والدوليّة تدريجيًّا من التنافس الديمقراطيّ البسيط إلى الانقلابات العسكريّة العنيفة التي قادها جنرالات الجيش السوريّ. وتدلّ الانقلابات السبع التي قادها الضبّاط بين آذار 1949 وآذار 1963، والاتّحاد مع مصر بين شباط 1958 وأيلول 1961، بوضوح على دور الجيش المتزايد. أمّا بالنسبة لعلاقات حزب البعث مع الناصريّة، فقد تمّ إنشاء لجنة عسكريّة بعثيّة مؤلّفة من خمسة أعضاء، ثلاثة منهم علويّون، هم محمّد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد. وقد عارض هؤلاء سياسة عفلق مُتهمّينه بالموافقة على “مصرنة” سوريا. وبعد أن تبيّن في أيلول 1961 فشل الجمهوريّة العربيّة المتّحدة، أعدّت هذه اللجنة سرًّا انقلابًا عسكريًّا مزدوجًا ضدّ الحكم السوريّ وضدّ المكتب السياسيّ لحزب البعث الذي يرأسه عفلق.
شهدت الستّينيّات ظهور العلويّين وتصاعد دورهم، وخاصّةً جنرالاتهم، على واجهة المسرح البعثيّ والسوري. ففي 8 آذار 1963 نجح انقلاب اللجنة العسكريّة البعثيّة. وبعد إزاحة الناصريّين والشيوعيّين، دخلت اللجنة، التي يسيطر عليها صلاح جديد وحافظ الأسد، في مواجهة مع الزعيم التاريخيّ لحزب البعث، ميشال عفلق. وبعد ثلاث سنوات، بين 21 و 25 شباط 1966، قامت اللجنة بانقلاب ثانٍ ضدّ عفلق، وتمّ تعليق الدستور وإقامة نظام جديد كرّس الدمج التام بين البعث والسلطة: «السلطة هي البعث»، وأقسى التيار العفلقي من الحزب والدولة.
رغم ذلك لم يتأخّر ظهور الصراع على السلطة بين القائدين الجديدين جديد والأسد. فقد برزت المنافسة بينهما في أعقاب هزيمة الجيش السوريّ خلال الحرب الاسرائيليّة العربيّة في حزيران 1967، والتي أدّت إلى خسارة هضبة الجولان. وتُضاف إلى الهزيمة الجدالات الإيديولوجيّة بين المجموعة التي يرأسها جديد، الذي كان يتطلّع إلى عقيدة ماركسيّة راديكاليّة، والمجموعة التي يرأسها الأسد، الذي كان همّه الرئيسيّ إعادة بناء الجيش السوريّ من دون مضاعفة الاعتماد على الاتّحاد السوفياتي. وكانت هذه المجموعة تريد التعاون الاقتصاديّ والعسكريّ مع الدول العربيّة الأخرى من دون فرض نهج ماركسيّ أو تقدّميّ عليها.
وجاءت أحداث أيلول الاسود حيث قضى الملك الأردنيّ حسين على المقاومة الفلسطينية في الأردن، في أيلول 1970، ومحاولةٌ صلاح جديد استخدام الجيش السوريّ إلى جانب الفلسطينيّين، وهو ما عارضه الأسد، لتفسد نهائيًّا العلاقات بين زعيمي سوريا. ودفع هذا الوضع، الذي تفاقم بعد وفاة عبد الناصر، الأسد إلى أخذ المبادرة. فاعتقل الأعضاء الموالين لجديد وتولّى قيادة الفرق العسكريّة الأكثر أهميّة. وفي 19 تشرين الأوّل 1970 أمر جنوده بتطويق مكاتب الجناح المدنيّ لحزب البعث، وألقى القبض في اليوم التالي على القيادات الأبرز، بمن فيها جديد. ومنذ ذلك الحين ركّز الأسد بين يديه جميع سلطات البعث والحكومة السوريّة، وعيّن أحد أتباعه، أحمد الخطيب، على رأس الدولة السوريّة. وإذ كان يدرك أنّ ارتقاء علويّ إلى رئاسة الجمهوريّة كان ليصدم مشاعر السنّة السوريّين (الذين يعتبرون العلويّين غير مسلمين)، طلب الأسد من الإمام الشيعيّ اللبنانيّ موسى الصدر، وكان صديقه، إصدار فتوى يُعلن فيها أنّ العلويّين مسلمون شيعة. وأصبح الأسد، بعد أن طرح 173 عضوًا في مجلس الشعب اسمه كمرشّح للرئاسة، رئيسًا للجمهوريّة في 12 آذار 1971 عقب استفتاء شعبيّ. وقد أطلق الأسد على هذه العملية إسم “الحركة التصحيحيّة”. وفي عام 1973، شرع بإجراء تعديل في الدستور السوريّ بهدف حذف البند الذي ينصّ على أنّ رئيس الجمهوريّة يجب أن يكون من الدين الإسلاميّ. فواجهته معارضة شديدة من جانب العلماء السنّة السوريّين الذين هدّدوه بتعبئة الجماهير الإسلاميّة ضدّه. أمّا بالنسبة للسياسة العسكريّة، فقد تّحكم الأسد بقبضة من حديد بكلّ ما له علاقة بالجيش. ونتيجةً لهذه السياسة، احتلّ ضبّاط علويين أو من السنّة والمسيحيّين البعثيّين الذين أظهروا ولاءً قويًّا للأسد المراكز العليا في الجيش بشكل حصريّ. ولم يُسمح لأخصام حزب البعث، على الأخصّ لجماعة الإخوان المسلمين، بالتقدّم إلى المدرسة الحربيّة. وطُبّقت نفس الإجراءات في تجنيد أعضاء المخابرات. وقد انتقل هذا النظام من الأب إلى الابن. وإذ أدرك أهميّة الجيش، استطاع الرئيس الحاليّ بشّار الأسد أن يستمرّ في السيطرة عليه. فلا وحدة عسكريّة يتمّ استنفارها من دون موافقته، كما يدلّ على ذلك التحدّي الذي يواجهه الجيش منذ اندلاع الأحداث في سوريا، في آذار 2011.
في ظلّ قيادة الأسد بالذات تحوّلت سوريا، التي كانت حتّى ذلك الوقت موضع نزاع بين القوى الإقليميّة والدوليّة، إلى قوّة إقليميّة فعّالة تؤثّر على كامل مساحة الشرق الأوسط. وكون الأسد قد أقام سلطة مركزيّة قويّة في دمشق وفرض سلطته بكلّ الوسائل، بما في ذلك العنف، على كامل المناطق المجاورة، فقد نجحت عائلته في تحويل سوريا إلى نقطة التقاء جوهريّة لتحالفٍ سياسيّ وعسكريّ وجيوستراتيجيّ يمتدّ من إيران وصولا إلى حزب الله في لبنان مرورًا بالعراق. وقد رأى زعماء المنطقة السنّيون، كالملك عبد الله في الأردن والرئيس المصريّ السابق حسني مبارك والعاهل السعوديّ الملك عبد الله، في هذا التحالف تحالفًا شيعيًّا سمّوه “الهلال الشيعي”. هذا التحالف ندَّدت به الولايات المتّحدة، واعتبرته جزءًا من “محور الشرّ”.
إذن لا يمكن فهم ما يجري حاليًّا في سوريا بشكل أفضل إلا في سياق التنافس الجيوسياسيّ بين الولايات المتّحدة وحلفائها من جهة، وإيران وحلفائها من جهة أخرى، والذي يفاقمه غليان طائفيّ من جانب اليهود والسنّة والشيعة. وإذا أضفنا إلى هذا الصراع لعبة النفط والغاز، حيث يُقدَّر لسوريا أن تكون منتجاً وممراً للنفط والغاز الشرق الأوسطي، ودخول روسيا والصين إلى هذا الصراع حيث يتداخل فيه العامل الديني والطائفي بالعامل الجيوسياسي وبعامل الطاقة، يصبح الموقف في سوريا شديد التعقيد ومفتوح على كل الاحتمالات. وقد دلّت الاحداث الاخيرة أن الأزمة السوريّة لم تعد شأنا داخليًّا بين المعارضة السوريّة من جهة، والنظام البعثيّ من الجهة الأخرى، ولا مواجهة إقليميّة بين المحور السنّي من جهة والمحور الشيعيّ من جهة أخرى، بل أصبحت مسألة يمكن أن تغيِّر التوازن الدوليّ الذي تأسّس في أعقاب انهيار الاتّحاد السوفياتي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق