مارس الثلاثة تجربتهم الأساسية في الحزب الشيوعي اللبناني. بل إن تجربتهم في الحزب، لولا بعض الانقطاعات بالنسبة إلى كمال البقاعي، استغرقت حياتهم بأكملها.
في واقع الحزب الشيوعي، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، الكثير من الفجوات والصعوبات، التي تحوّل بعضها الى أزمات متفاقمة، وخصوصاً في العقد الأخير. القيادة السابقة التي تجاهلت الأزمة وفاقمتها عن وعي أو عن سوء تقدير وتعامل، رفعت شعار "منكمل باللي بقيوا" لتبرير مسؤوليتها المضاعفة عن دفع أعداد كبيرة من أعضاء الحزب إلى التخلي الواقعي عن عضويته، بحيث أصبح عدد من بقي من أعضائه في التنظيم لا يتجاوز ثلث عدد الذين كانوا في عضويته عندما تسلمت القيادة المذكورة زمام المسؤولية. ووفق مبدأ "من ليس معي فهو ضد الحزب"، مارست تلك القيادة، التي استمرت لمدة 13 سنة (خمس منها غير شرعية: بالمماطلة والتمديد والرهان على تيئيس أعضاء الحزب...) سياسة فئوية بالمعنى الشامل للكلمة: تغذية عصبية عمياء في ذهن رفاق يتميزون بحسن الطوية والنية دون الحس النقدي الضروري الذي ينبغي أن يمتلكه مناضل "طليعي". ممارسة تعسف بدائي وتهريجي في محاولة تكريس قيادة و"قائد" على الطريقة الكورية الشمالية.
هذا الطابع الفئوي كرَّس عزل الحزب وانقطاع صلاته بمن ينبغي أن يقيم معهم علاقات تفاعل وتعاون وتحالف... كما أدى إلى فرض عملية فرز داخل صفوف أعضاء الحزب على أساس الولاء أو العداء للقيادة: على حساب الكفاءة والكفاحية والقدرة على القيادة والمبادرة. ثم، وهذا هو الأخطر، على حساب دور الهيئات الشرعية وممارستها لمسؤولياتها في إدارة عمل الحزب. وكذلك على حساب أصول العمل المكرسة في النظام الداخلي بحيث أصبح انتهاك هذا النظام أمراً طبيعياً وفق مبدأ أننا "قيادة" ولسنا سلطة (كما جاء في تقرير تبريري مكتوب!). لا غرابة في ذلك (!) إذ إن المجموعة المذكورة استولت على قيادة الحزب من خلال عمل تكتلي انقلابي دُبِّر بأكثر من ليل، وبوسائل غير مشروعة غالباً، وغير أخلاقية وغير رفاقية، في أحيان كثيرة.
في عجالة وتكثيف، يجمع بين الرفاق الثلاثة ابتعادهم عن مثل هذه الأساليب، ومن ثمّ ابتعادهم عن العمل القيادي، لأسباب مختلفة، في المرحلة المذكورة. أما من شارك منهم، كالرفيق رضوان، فقد شارك من موقع اعتراضي: هكذا كان الأمر، بالنسبة إلى رضوان في المؤتمر العاشر، وكذلك في المؤتمر الأخير، الحادي عشر، حيث فشل معظم أعضاء القيادة السابقة في الانتخابات الحزبية.
الواقع أن المواقف المذكورة لكل من جورج البطل، ورضوان حمزة، وكمال البقاعي، كانت، عموماً، نتيجة لمسار سياسي وسلوكي مديد. فجورج البطل كان يتفرد بحسه النقدي الدائم والحاد والطريف. عززت أهمية هذا النقد جرأة صاحبه الأدبية ومعرفته الموسوعية المقرونتين بهمة كفاحية عالية، وبأريحية اجتماعية كانت تُميِّزه، وتبعده، لسبب فيه وفي بيئته الاجتماعية وقناعاته الفكرية، عن النمطية والعقد والتعقيدات. كان البطل لا يستثني أحداً من انتقاداته: لا "الرفاق الكبار" (السوفيات)، ولا الرفاق المحليين، قياديين أو سواهم. أدى ذلك إلى تحسس القياديين التقليديين منه واعتبره بعضهم غير مستوف لشروط القيادة بمعناها التقليدي الذي كان سائداً في الحركة العالمية. وقد جرت محاولات لإبعاده، كنت، بكل تواضع، ممن تصّدّوا لها مدافعاً عن كفاءته وعمق معرفته وثقافته وعلاقاته ومحبة الرفاق والأصدقاء له... في مراحل التحولات والانعطافات في لبنان والمنطقة وقبلها الانهيار الكبير في موسكو، وفي مناخ الارتباك والتباين في مواقف قادة الحزب، ابتعد جورج عن العمل القيادي وابتعدت القيادة السابقة عنه إلى حد القطيعة والإهمال، وخصوصاً حين حاول التدخل المخلص لمنع بعض انحرافات قيادية في الحقلين التنظيمي والسياسي: لم يحظ بمجرد استقبال!
في المراحل الأخيرة بدَّل البطل بعض قناعاته، وكان يعيش مرحلة انتظارية ثقيلة وطويلة باحثاً عن "غودو" الجديد الذي لا يأتي من دون أن يستدعيه مبادرون!!
رضوان حمزة كان شخصية مرهفة ونبيلة وشاعرة ومركبة بكل ما في الكلمة من معنى. هو، عموماً، تقليدي المفاهيم العامة. لكنه، بالمقابل، يتمتع بقدرة عالية على التفاعل والتواصل والحوار. المدهش أنه كان ينمّي في شخصيته هاتين الملكتين معاً: المحافظة والانفتاح من دون أن تتصادما، كما أعتقد، إلا في معاناته الشخصية. وهو كجورج البطل كان يفرح بالمواهب الجديدة التي يصادفها: يشجعها ويتبناها ما تيسر له ذلك. أقول ما تيسر له ذلك، لأنه عانى هو شخصياً من التهميش والإبعاد حين حاول البعض التعامل معه كموظف وليس كمبدع وكحزبي في "جهاز" وليس كفنّان وكشاعر وكمخرج... لم يكن رضوان، كالبطل، يقسو في ارتفاع صوته أو نقده، لكنه، مثله، كان محبوباً دون حدود حتى من قبل الذين يتباين معهم في المنطلق والموقف والسلوك. وكلاهما جورج ورضوان كان بعيداً عن المظاهر وطلب المواقع. في حالة رضوان، بلغ هذا الزهد حدّه الأقصى إلى درجة أنه امتنع عن ممارسة دوره نقيباً للمرئي والمسموع، اعتقاداً منه بأن ذلك سيعزز الانقسام القائم. سواه كان، وفق ما هو سائد، استغل الموقع المهم المذكور للظهور والبيع والشراء!
موقعي في قيادة الحزب الشيوعي، سابقاً، كان يسمح لي بالاطلاع على دور كمال البقاعي في المقاومة ومساهماته المميزة فيها. طبيعة عملنا كانت تفرض عدم الوجود في المكان نفسه. سمعت الكثير عن تصميمه ومبادراته. أنصفه الرفاق حين تحدثوا عن دوره الشخصي المؤثر في المقاومة. هذا الإنصاف ينبغي أن يطاول المئات ممن عملوا في السر، بتفانٍ وتضحية وكفاءة، وساهموا في صنع انتصارات المقاومة وانتصار لبنان على العدو الصهيوني.
من خلال انخراطه في العمل العسكري المقاوم ضد العدو، مارس كمال البقاعي دوراً وطنياً وليس حزبياً فقط. هكذا فعل جورج البطل ورضوان حمزة حين أخضعا الخاص للعام، والحزبي للوطني. هي تجارب تستحق الدرس لجهة صياغة البرنامج وتحديد الأهداف وبلورة الأساليب. المشروع الحزبي هو، من حيث المبدأ، مشروع خاص وقيد التبلور. يصبح مشروعاً وطنياً ناجزاً حين تتبناه الأكثرية. لن يحصل ذلك بالفئوية والعصبية والانعزال والجمود... هذه آفات تكاد تقتل ما تبقى من الأحزاب ومن لبنان على حد سواء. تجارب جورج البطل ورضوان حمزة وكمال البقاعي وأمثالهم من المناضلين، الأموات والأحياء، في غاية الأهمية لهذا الغرض.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق