دخلت إسرائيل من محاور عدة، كنت في منزلي وقد نمنا بملابسنا العسكرية.
بدأ الصدام بين شبابنا والقوات الإسرائيلية أمام المدينة الرياضية ثم في رأس بيروت وعلى محور محطة أيوب ومار الياس. والحقيقة أن الذين قاتلوا كانوا مجموعة قليلة جداً من الشيوعيين ومنظمة العمل الشيوعي وتنظيم منير الصياد والاتحاد الاشتراكي العربي (عمر حرب) ومن بعض أطراف الحزب السوري القومي الاجتماعي وبقايا المنظمات الفلسطينية، أي اللبنانيين الذين كانت لهم علاقة بالمنظمات. سقط لنا عدد من الشهداء، جورج قصابلي ومحمد الحجيري ومحمد مغنية أمام مستشفى بخعازي على محور كليمنصو. فقلت أن هؤلاء سقطوا وكتبوا بدمائهم نداء المقاومة الذي كنت أكتبه مع الرفيق محسن إبراهيم في منزل الشهيد كمال جنبلاط. كتبناه يوم 15 أيلول / سبتمبر وظهر في اليوم التالي.
كنا تواعدنا مع (الوزير) محسن دلول وبعض أطراف الحركة الوطنية لإصدار موقف، لكن الاجتياح الاسرائيلي كان سريعاً ولم يستطع الأخ محسن دلول أو ألبير منصور أو فؤاد شبقلو أو سمير صباغ الوصول. كتبت البيان وقرأه محسن إبراهيم الذي لا تفارقه النكتة حتى في الظروف الصعبة فقال : لم أكتشف قبل اليوم أنك أديب. ارسلت البيان مع مدير مكتبي الرفيق المناضل مصطفى أحمد ليوزعه على الصحف. نقله بخط يده وأخفاه تحت ملابسه ووزعه على الصحف.
انتقلنا من هناك الى منزل قريب لغسان اللمع وهو مناضل نقابي وكان رئيساً لنقابة عمال الفنادق. بقيت ومحسن إبراهيم في الطبقة الرابعة من دون مصعد، وكانت هناك المعارك تدور من حولنا. وفي المساء انتقلت إلى بيت سري كان معداً سابقاً ويحوي مطبعة سرية وجهاز طباعة سرياً من شخصين هما صاحبا البيت، مناضلان صامتان وسريان. اصحاب البيت ومصطفى أحمد كانوا المراسلين بيني وبين محسن إبراهيم الذي انتقل أيضاً إلى بيت سري. اصحاب البيت الشرفاء هؤلاء هجروا لاحقاً من بحمدون ودفعوا ثمن كونهم من المسيحيين وكانوا دفعوا ثمن انتمائهم الحزبي على يد الكتائب الذين قتلوا أهلهم.
وفي الليل انتقلت لاجتمع مع الرفيق إلياس عطالله (من مسؤولي الحزب) والمجموعة الأولى التي حضرت للعملية الأولى للمقاومة الوطنية عند محطة ايوب القريبة. وفي اليوم التالي حصلت عملية قرب صيدلية بسترس. وفي اليوم الثالث، نظمنا عمليتين في الوقت نفسه عند مقر منظمة التحرير الفلسطينية، نحن من جهة ومنظمة العمل الشيوعي من جهة أخرى، ثم في اليوم الرابع أو الخامس جاءت عملية الوينبي الشهيرة... وراحت العمليات تتكاثر لتفرض الخروج الإسرائيلي المزري ونداءات الجيش الإسرائيلي، يا أهل بيروت لا تقاتلونا نحن سنخرج من بيروت.
- هذا يعني أنك ومحسن إبراهيم أطلقتما النداء والمقاومة الوطنية اللبنانية ؟
نعم وبفخر وصمت وثقة. أنا كنت وائقاً بأن ذلك الحجر في المياه الشعبية اللبنانية الصافية سينتشر كما النار في الهشيم. كنت ألتقي ومحسن يومياً. يلتقي مراسل من عندي وأخر من عنده في ساعة معينة ويتفقان على مكان اللقاء. نلتقي نقّوم الوضع ثم يذهب كل واحد إلى مقر. لا أنا أعرف إلى أين يذهب لينام ولا هو يعرف إلى أين ذهبت. وهذه هي أصول العمل السري التي تشدد أيضا على خطورة استخدام الهاتف. أنا قمت في بيت بلا هاتف لئلا يتوهم المرء أن مجرد تغيير صوته كاف لاستخدام الهاتف بلا أخطار. كنا نلتقي ليلاً وكنت ألتقي أيضاً مع سكرتيريا مصغرة من قيادة الحزب ومع قيادة المقاومة. ثم عقدنا اجتماعين موسعين للمكتب السياسي سراً في ظل الاحتلال وأصدرنا بيانات وطبعت سراً ووزعت وبدأنا تنظيم أنفسنا على أساس أن الاحتلال طويل.
- من كان المسؤول عن العمل العسكري؟
إلياس عطالله وأنا شخصياً بصفتي الأمين العام وهناك عدد من الجنود المجهولين تصدوا واستشهدوا، اصيبوا بفعل الظروف الصعبة. دامت هذه المرحلة عشرة أيام استمر الحذر بعد دخول الجيش. ثم جاء عيد الأضحى، على ما اذكر، فقمنا بجولة معايدات، وأقمنا ذكرى تاسيس الحزب في الكارلتون في 24 تشرين الأول / أكتوبر فكانت بداية نهوض غير عادي في تلك المرحلة التقى من تفرقوا بفعل الاحتلال. بعدها بدأت المقاومة على طريق الساحل التي سميت طريق هوشي منه وفي الجبل. وساهم في العمليات الأولى الحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي وتنظيم يساري صغير برئاسة هاشم علي محسن وحزب العمل ( حسين حمدان). واتخذ قرار قيام جبهة المقاومة الوطنية قبل خروج المقاومة الفلسطينية وكنا ثلاثة أنا ومحسن ابراهيم وحسين حمدان ومعنا رفاق من أحزابنا، وعقد اجتماع آخر حضره منير الصياد. وفي صيدا كنا على اتصال مع (النائب) مصطفى سعد وشقيقه أسامة سعد من " التنظيم الشعبي الناصري".
- لم يكن التعاون مع " أمل " قد بدأ بعد ؟
نعم كان هنالك في " أمل " جو ارتياح ولكن معه بعض الحذر. فهناك ثلاث ملابسات في هذا الموضوع؛ الرفاق في الحزب السوري القومي الاجتماعي يقولون أن عملية للمقاومة في الجنوب حصلت في تموز/ يوليو في ذكرى استشهاد الزعيم انطون سعادة ويعتبرون ذلك انطلاقة المقاومة. نحن نقدر ذلك ونحن نعرف العملية وأن دور الرفاق القوميين كان نقل صاروخ تولت " فتح " إطلاقه لكن الفارق النوعي، قبل خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت كانت العمليات تحصل باسم القيادة المشتركة للثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية. نحن أردنا أن نسجل حالة نوعية جديدة إذ صارت العمليات تعلن باسم جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية . من هنا الأهمية التاريخية لهذا القرار الذي لم يفهمه عرفات وقاومه ولم يفهمه أيضاً الحلفاء الفلسطينيون الآخرون الذين اعتبروا الأمر إنكاراً لدورهم وليس ابرازاً للعامل الوطني اللبناني في مواجهة إسرائيل وأن اللبنانيين يقاتلون إسرائيل ليس كرمى لعيني الفلسطينيين بل من موقعهم اللبناني – العربي ودفاعاً عن وطنهم في وجه الاحتلال.
ونحن نعجب لذلك وتناقشنا طويلاً مع الاخوان الفلسطينيين وقلنا لهم كيف تدافعون عما تعتبرونه استقلال القرار الوطني الفلسطيني والشخصية المستقلة لمنظمة التحرير الفلسطينية ودور العامل الفلسطيني في تحرير فلسطين، وتنكرون دور العامل الوطني اللبناني في تحرير لبنان والشخصية الوطنية اللبنانية لجبهة المقاومة اللبنانية.
استمر هذا الاشكال طويلاً. مع حركة "امل" ليس هناك اشكال فالأخ نبيه بري (زعيم الحركة) قال في أكثر من مناسبة واشترك معنا أكثر من مرة خطباء من "أمل" في ذكرى نشوء المقاومة. قال الأخ نبيه أنه في ذلك الوقت كان يهيء نفسه فلديه حركة جماهيرية واسعة وجهاز جماهيري واسع. كان يعمل سياسياً تحت شعار " التعاطي مع اسرائيل حرام" الذي أطلقه الأمام موسى الصدر وشعار " المقاومة الشاملة" الذي رفعه الشيخ محمد مهدي شمس الدين وصولاً إلى حمل السلاح على يد الرواد في "أمل" وهم محمد سعد ورفاقه.
اعتبر بري أن الموقف وأن التفاوت الزمني هو بفعل اختلاف الطبيعة بين التنظيمين وظروف العمل. لقد كان رداً تاريخياً أسجل للرئيس (حافظ) الأسد أنه التقطه سريعاً. قال لي الرئيس الأسد في لقاء لاحق " انا عندما سمعت بالعملية الأولى اتصلت شخصيا بالتلفزيون وطلبت منهم وضعه أول خبر وتحت إسم المقاومة الوطنية اللبنانية. ادركت بسرعة أهمية هذا العامل في هزيمة إسرائيل في لبنان وليس القتال السابق السوري – الفلسطيني في لبنان".
تجذرت المقاومة وكبرت كرة الثلج ونسأت حالة نوعية جديدة في الجبل الذي اريد له أن يقدم كنموذج للسكوت على الوجود الإسرائيلي فتحول بركاناً في وجه إسرائيل، وفي الجنوب الذي تفجّر انتفاضة شاملة بدأت بعاشوراء في النبطية ثم في بلدة معركة حيث رشقت النساء جنود الاحتلال بالزيت المغلي.
ونحن الآن بما نشهده من أحداث رمزها "حزب الله" هو استمرار لحالة مقاومة تخلف فيها الحزب الشيوعي وغيره نتيجة ظروف موضوعية وذاتية.
(المصدر : مجلة الوسط – العدد : 225 – 20 ايار 1996)
انطلاقة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية
في يوم قائظ من أيام آب 1982، وقبيل خروج قوات الثورة الفلسطينية من لبنان، التقى عدد قليل جدا من قادة المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية وتدارسوا الوضع وما صارت عليه الحال، واتفقوا على تكوين مجموعات قتالية متحركة لتعقب الجيش الاسرائيلي في المناطق اللبنانية المحتلة وتوجيه الضربات الى أفراده وآلياته، وتنظيم حرب <<أنصار>> شاملة ضد الوجود الاسرائيلي في لبنان. وفي 16/9/1982، ليلة اقتحام الجيش الاسرائيلي بيروت الغربية عقب مقتل الرئيس اللبناني المنتخب بشير الجميل، التقى كل من جورج حاوي الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني آنذاك ومحسن ابراهيم الامين العام لمنظمة العمل الشيوعي وأصدروا نداء الى اللبنانيين دعا الى حمل السلاح وتنظيم الصفوف في "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية". وأذيع هذا النداء في 17/9/1982 غداة اقتحام الجيش الاسرائيلي بيروت، وجاء فيه :
البيان الأول
"يا أبناء بيروت البطلة،
يا أبناء شعبنا اللبناني العظيم في الجنوب والجبل والبقاع والشمال،
أيها المقاتلون الوطنيون الشجعان،
إن العدو الاسرائيلي المستمر في حربه الوحشية ضد لبنان منذ أكثر من مئة وأربعة أيام يبدأ اليوم تدنيس أرض بيروت الوطنية الطاهرة (...).
فإلى السلاح استمرارا للصمود البطولي دفاعا عن بيروت والجبل، عن الجنوب والبقاع والشمال،
إلى السلاح تنظيما للمقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال".
البيان العسكري رقم واحد
وقد دشن هذا البيان الميلاد الفعلي ل "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية"، ولم تكد تمضي أيام قليلة حتى صدر البيان العسكري رقم واحد عن الجبهة وجاء فيه: "صباح الثلاثاء يوم 21 أيلول من العام 1982، ولم تكد تمضي أيام على دخول الغزاة الى أول عاصمة عربية تقع تحت الاحتلال بعد القدس المحتلة، هاجمت مجموعة من قوات جبهة المقاومة الوطنية ليل الاثنين الثلاثاء، جنود الاحتلال الاسرائيلي في منطقة الصنائع وذلك بالقنابل اليدوية فجرحت وقتلت ما لا يقل عن 8 جنود للعدو، وهرعت سيارات الاسعاف الى مكان الحادث فيما عادت المجموعة الى أماكنها سالمة. إن هذه العملية هي جزء من نضال كل المقاتلين الوطنيين من أجل طرد الاحتلال وإجلائه عن تراب الوطن".