-->
404
نعتذر , لا نستطيع ايجاد الصفحة المطلوبة
  • العودة الى الصفحة الرئيسية
  • الأحد، 3 يوليو 2016

    الدكتور محمد الحجيري... هزيمة "التابعة (أمّ الصبيان)" والطريق إلى الحياة(9)

    الدكتور محمد الحجيري... هزيمة "التابعة (أمّ الصبيان)" والطريق إلى الحياة(9)




    الجزء التاسع مع مقالة الدكتور محمد الحجيري "كان أبي، بين الحنين وصادق القول"

    لا ريب في أنّ أكثر العلوم غموضاً وجذباً للمفكرين، وللفلاسفة ولأهل العلم، وحتّى لبسطاء الناس هي علوم "التكوّن". لا نطمح إلى الكثير وسنطرح سؤالا واحداً: تُرى كيف تتكوّن الذاكرة لدى الإنسان؟ ثمّة أسئلةٌ كثيرةٌ وبسيطةٌ في ظاهرها تواجهُنا، ولكنّنا لا نستطيع الإجابةَ عليها بالدقّة المطلوبة. يتساءل الكثيرون مثلاً، إلى أيّ حدٍّ ومدًى من الزمن يمكن للمرء الرجوعُ بالذاكرة. من الأكيد أنّه لا يمكنُ لأحدٍ أن يضعَ حدّا دقيقاً فاصلاً بين قدرة الطفل على التذكُّر وعدم قدرته على ذلك. عندما يحاول بعضُنا الرجوعَ بذاكرته ألى أبعدَ ما يمكن، تواجهُه جملةُ مصاعب في ذلك: يشعرُ المرءُ بفقدانه القدرةَ المعتادةَ على التركيز، وبِنُدْرة الصُوَر الذُهنيّة وتشتّتها، وبفقدانٍ لعلاقة "السابق واللاحق" الزمنية الـمُفترضة بين تلك الصُوَرِ المشتّتة. لقد حاولت شخصيّا مرّاتٍ عديدةً أن أعودَ بذاكرتي إلى أبعدَ ما أستطيع، ولقد وجدت ذلك صعباً جدّاً، ولا أدري، ربّما يصبحُ ذلك الرجوعُ أكثرَ سهولة في حالة اللاوعي أو النوم أو بواسطة الأحلام... وبالتالي هذه أمورٌ جانبيةٌ لا تُغيّرُ مضامين ما نرمي إليه وتقعُ في حقل الباحثين في علم النفس وأنطولوجيا الكائن البشري.

     في المجتمعات الفلاحيّة، لطالما اكتسب وجودُ الذكور في العوائل أهميّةً بالغةً مردُّها إلى عواملَ شتّى، منها الاقتصاديّ مثلاً، كتأمين اليد العاملة القادرة على فلاحة وزراعة الأرض، ومنها القَبَليّ الـمُتَوارث، كحمل اسم الأب واستمراريّة النسل، وسوى ذلك. قبل ولادتي، عانت عائلتي من موت المواليد الذكور الذين عاشوا بضعةَ أشهرٍ وفارقوا الحياة تاركين في قلب والدتي ووالدي الكثيرَ من اللوعة والألم. ولقد بقيت والدتي حتّى وفاتها مقتنعةً أنّ "التابعة" هي التي تقتلُ اطفالَها. بعد وفاة والدتي، حدّثتني أختي الكبرى كيف هزمت والدتي التابعةَ وكيف أنقذتني من براثنها. قالت: كان أبي يؤمن بوجود الجنّ، كما ورد في القرآن، ولكنّه كان يقول إنّهم ليسوا في عالمنا فهم يعيشون في عالم رديف موازٍ لعالمنا ولقد وضع اللهُ بيننا وبينهم سدًّا فلا يمكنُهم تخطّيه والعبورُ إلى حيث نحن، ما دام القرآن موجوداً في الأرض، قد يوسوسون للمرء ولكنّهم أعجزُ من أن يؤذوا أحداً، ولم يكن  أبي  مؤمنا بوجود "التابعة"  التي يسمّونها "أمّ الصبيان"، ولا بمصدّقٍ لكلام والدتي عن ملازمة التابعة لها أثناء الحمل والولادة. وعندما كانت تطالبُه بكتابة حجابٍ لها كان يردّ عليها في الحجاب يكتبون البسملة والمعوذات وأنت تعرفين آياتها عن ظهر قلب، فاقرأيها قبل النوم ولا حاجة إلى التمائم والحجاب. وتابعت أختي أنّه في أحد الأيام أتت عمّة والدتي لزيارتها وكانت هذه العمّة زوجة رجل ذاع صيته في القرية بسعة العلم والورع والتقوى فاستحلفتها والدتي بأن تطلب من زوجها أن يكتب لها حجابا لصدّ التابعة،  وبعد أيام قليلة عادت العمّة فقالت لوالدتي، بعد استخارة وتأمّل طويلين، اقتنع الشيخ بأن يكتب لك حجابا، وهذا ما لم يفعله لأحدٍ قطّ من قبلك، ولكنّه قال لي: الحجاب غير كافٍ لردع قرينتك الكافرة  القويّة التي تقتات على دماء أطفالك، فعليك أنت أن تهزميها بإرادتك وقوّة عزيمتك. سوف تظهر لك في المنام بأوجه مختلفة، كأمّ أو أخت.. وتطلب منك فضّ الحجاب، فلا تستجيبي لطلبها، وإن استطعت الإمساك بها فلا ترحميها وأشبعيها ضربا وامسكي بخناقها، ولا تخافي منها فقد تتحول إلى أفعى أو إلى ضبع وسوى ذلك من الكواسر والوحوش فأنت محميّة بالحجاب، وقد تتحوّل إلى إنسانٍ من أقربائك لكي تخدعك فتكفّي عنها فلا تجعليها تخدعك وتذكّري أنّها قاتلة أطفالك. ستتمتعين بقوّة رحمانية كبيرة في معركتك معها فإن استجارت بالله دون سواه فاستحلفيها بعزّته ألا تؤذيك بعد اليوم فإن أقسمت بالعزّة الإلهية فدعيها وإن لم تفعل فسيظهر أمامك تنورٌ ملتهب بلا قرار فارميها فيه وتخلّصي من إجرامها. وتابعت أختي الحديث لقد استغربت أمي هذه الحكاية ولكنها شكرت عمّتها وأرسلت للشيخ كنزة من الصوف كانت قد حاكتها لوالدي يوسف. وقد حدث معها في المنام بالضبط ما قصته العمّة. فقد مكّنتها آياتُ الله الواردة في الحجاب من النصر، ومكّنها ألـمُها المتراكم جرّاء فقدانها لأطفالها من السيطرة على "التابعة" الملعونة وشلّ حركتها وذلك على الرغم من أنّ "التابعة" غيّرت شكلها مرارا إلى  أفعى وإلى ضبع ...؛ كما مكّنها خوفُها على أطفالها الذين قد يمنحُها الله إياهم  من رمي "قرينتها" الكافرة في التنور. وبعد فترة تسعة أشهر عند ظهيرة الثامن من أذار 1956 أنجبت والدتي طفلا ذكرا قرر والدي تسميته "محمد". أنهت أختي قصتها وحسبت نفسي أطالع، لا بل أعايش أحداث ملحمة  سيف بن ذي يزن اليماني، الذي اشتهر بفروسيته، حيث كان حسامه إذا وقع على يينميّة(1) خصمه شقّه إلى دكّة لباسة، كما اشتهر بقصة أخته الجنية عاقصة وصهره الجني عيروض والرهق الأسود الذي انصاع لأوامر الملك سيف فشق مجرى نهر النيل العظيم مستخدما عتلة سام بن نوح لسحق الجبال والصخور...

    ربّما تساءل القارئ الكريم كيف يُمكن، لكاتبٍ يحترم العقل والمنطق، أن يكتب سخافات كتلك الواردة أعلاه؟. لا شك بأنّ هذا السؤال في مكانه. وهذه السخافات تمثّل نوعا من التهافت الفكري والمنطقي في السرد الأدبي ولكنّها في الوقت عينه تلازم يا سادتي حقيقةً دامغةً، دليلُها هو وجودي الذاتي الملموسُ، الذي أتى عقب وفاة جميع من سبقني من أخوتي الذكور، وبالتالي نجد حقيقةً ماثلةً ربطها أصحابُها بخرافة، ولكنها حقيقة! فلو كتبت عوض ما ورد أعلاه،  أنّ والدي يوسف البيضاء وجد دواءً، أو أنّه وجد طبيباً وصف له دواءً كفيلاً بمنع موت أطفاله الذكور لكانت كتابتي كاذبةً بالمطلق لأنّ تلك الأدوية غير ممكنة، ولا علاقة لها بتسلسل الأحداث.

    أبعد ما ردّتني إليه الذكرى هو منظر أهلي وهم يقطفون العنب ويسطحونه، تركوني على مقربة منهم مع أختي الصغرى وكنت لا أمشي بل أحبو، وأذكر بعدها  كيف ضمّني أبي إلى صدره وحملني منطلقاً بي بسرعة الريح.. وتضيع هنا الصُوَرُ السابقةُ واللاحقةُ من ذاكرتي. وقد رمّمت تلك الصُورَ المشتَتةَ من الذكريات أحاديثُ والدتي وأختي وأبي وأحدِ أصدقاء أبي وهو أوّلُ من امتلك سيارةً في بلدتي. فلقد غَفِلَت عني أختي قليلاً فوضعت سنبلةَ قمحٍ بريٍّ في فمي، وكانت النتيجةُ مشهدَ اختناقِ طفلٍ أمام أهله. حملني أبي سريعاً إلى منزل صديقه خليل زعرور الذي لم يتردّد في نقلنا على جناح السرعة بسيارته إلى عيادة الطبيب مصطفى حيدر في اللبوة. كان الأمر بسيطا على الطبيب، فقد فتح فمي بآلة والتقط قطع سنبلة القمح البري بملقط من حلقي. في اليوم الثاني ذبح والدي خروفا ووزعه على المساكين في القرية. أذكر جيداً كيف كان والدي يصطحبني وهو يحملني على كتفيه إلى منطقة "الجوبان" في خراج بلدتنا، حيث كان ينتقي لي ثمارَ التين من الشجرة وينزعُ قشورَها ويُطعمني إيّاها قطعا صغيرة، وأذكر أنّه أفهمني أنّ العصفورَ أذكى من الإنسان بما يخصُّ انتقاءَه الثمرةَ الأطيبَ مذاقاً، وأذكر أنّه عندما صادفنا في أحد المرّات أفعى رأيتها قبله لم يعبأ ومرّ من قربها بهدوء وأنا على كتفيه وهو يكرّر لا تخف فهذه دودة كبيرة تعيش في جوارنا. أحيانا أشعر أنّ هذه التفاصيل حلُمٌ ولكنّها ليست كذلك فهي جزءٌ من الواقع  الذي تحوّل إلى حنينٍ لا يوصف. لم أذق في حياتي ما هو أطيب مذاقا من التين الذي كان يطعمني إياه أبي. أذكر، وهذا في وقت متأخر، كيف ختننا والدي أنا وأخي عمر، أذكر المطهر الذي خدعني بقصة الحمامة الطائرة وجرح لي الزيزي  فتبولت على وجههه واستغرقت في البكاء على "الزيزي" على الرغم من أنني لا أذكر أنني تألمت.

    أذكر أنني كنت أدخل في غفلة عن والدتي إلى غرفة العدة حيث كان حمارنا الأخضر وخروفان صغيران سماهما والدي الشتوي والصيفي. ولقد ارتعبت أمي عندما وجدتني أقف بين رجلي الأخضر ممسكا بذيله  وحرصت بعد ذلك على إغلاق الباب بأحكام لمنعي من الوقوف بين أرجل الأخضر. ولكنني كنت أبكي وأصرّ على اللعب مع الصيفي الذي كانت والدتي تخرج لي إلى الدار المشتركة لألعب معه ولكن تحت نظر اختي الصغرى. وكبر خروفي الصيفي وفي يوم من الأيام نطحني على غفلة مني فسقطت على الأرض على وجهي فجُرح جبيني وأجهشت في البكاء فأتت والدتي عند سماعها بكائي فحملتني الى البيت وتبعها والدي الذي ضمد جرحي، وغادر مسرعا  ليعود بعد قليل وبرفقته رجل يحمل سكينا وكنت أراقبهما من نافذة الغرفة؛ رأيت أمي وأختي تقتادان الخروفين. ومعهما محفر صغير، أخذ والدي المحفر وأعطى الحبلة التي رُبط فيها الصيفي للرجل  ونبش في الأرض الترابة جورة صغيرة. وعندها رأيت الرجل يحمل الخروف ويضعه على جانبه بشكل يبدو فيه الصيفي كأنّما ينطر إلى الشباك ثم أخذ السكين... ورأيت الدم ينزف بغزارة من خروفي .. فصرخت بملء صوتي واتجهت نحو باب الغرفة حيث أخذتني أمي المرتعبة من صراخي في حضنها لتهدئ روعي ولكنها لم تنجح كنت أصيح اريد خروفي مات خروفي. لقد أدرك أبي حجم الصدمة فطلب من الجزار وقف ذبح الخروف الآخر.

    كلما أرى خروفا تردّني الذكرى إلى خروفي الصيفي وكلما رأيت صحن زيتونٍ تردّني الذكرى إلى سلطة البرتقال (قطع برتقال صغيرة مع سكر) التي قدّمتها لي جدتي وهي تقص عليّ قصّة أخي الأصغر الذي وجدناه في كيس الزيتون الذي أرسله والدي. وأذكر منذ ثلاثين عاما صادفت سيدة عجوز عند والدتي، كانت من جيراننا القدامى فسألتني أن كنت ما زلت على قناعتي بأنّ أخي الأصغر كان في كيس الزيتون ... 

    (*) باحث في الجامعة اللبنانية، كلية الهندسة الفرع الاول له عدة مؤلفات منشورة وغير منشورة. 
     (1) خوذة، بيضة أو قبعة من حديد يجعلها المحارب على رأسه 

    هذا النص هو مثال لنص يمكن أن يستبدل في نفس المساحة، لقد تم توليد هذا النص من مولد النص العربى، حيث يمكنك أن تولد مثل هذا النص أو العديد من النصوص الأخرى إضافة إلى زيادة عدد الحروف التى يولدها التطبيق

    الناشر : محمود الحجيري

    ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق

    جميع الحقوق محفوظة ل زهرة الكرز
    تصميم : عالم المدون