الجمعة، 1 يوليو 2016

الدكتور محمد الحجيري.. الرحيل ونواميس التواصل الروحي المجهولة(8)







الحلقة الثامنة من مقال الدكتور محمد الحجيري "كان أبي، بين الحنين وصادق القول"

إنّها صبيحة يومٍ من أواخر شهر حزيران سنة 1984،  كنت وحيداً في غرفتي التي تحمل الرقم 8، والواقعة في الطابق  الرابع  من مبنى طلاب كلية الفيزياء والرياضيات. كانت غرفتي معروفةً للجميع كمركز استقطابٍ في المبنى كلِّه للطلبة الذين يواجهون مسائل مستعصية في الرياضيات، وكنت قد كرّست لهذه المهمّة خمس ساعات من يوم الأحد، أعالج فيها مسائلَ الرياضيات المستعصية على أصحابها من الطلاب الراغبين بسؤالي، شريطة أن يتركَ لي الـمَعنيُّ باستشارتي، مُسبقا، ملخّصّاً عن أسئلتِه، يودِعُه صندوقي البريديّ في مدخل المبنى، حيث كنت على أساس هذا الملخّص، أحدّدُ موعداً للراغب في لقائي، بواسطة رسالةٍ أودِعُها باسم صاحبها في مركز الاستعلامات. كان المبنى من الحقبة القيصريّة، عاليَ السقوف، سميكَ الجدران، رحِباً بكل المعايير، وكنت قد رفضت الانتقالَ من غرفتي إلى غرفة أخرى في مبنى جديد. وحصلت على إذنٍ خاصٍّ من رئيس الجامعة مكّنني من الإقامة في الغرفة رقم 8 ثمانيَ سنوات متتالية، وذلك من مجمل 11سنة قضيتُها في موسكو، في تحصيل المعرفة. كنت متريّثا في تأريخ وإنهاء الرسالة التي أكتبها إلى أبي على أمل ألا أنسى شيئاً  ممّا ينبغي كتابته. نظرت إلى الساعة المعلّقة على المكتبة، كانت قرابة السابعة فأخذت سجائري واتجهت إلى المطعم في الطابق السفلي للمبنى، لأحتسي القهوة، كان المطعمُ شبهَ فارغٍ عند وصولي. وكنت نتيجةَ خبرتي أعلم أنّ ذروة الزحمة الصباحيّة في المطعم والكافتيريا تحدث بُعَيْد الساعة السابعة والنصف بقليل، حيث يُريدُ معظمُ الطلاب أن يحظَوا بفطورٍ سريعٍ قبل دخولهم إلى قاعات الدراسة. أستقبلتني بالترحاب السيدة الستّينية زويا التي تعمل في الكافتيريا، وبعد تبادلنا للتحيّة قالت لي بعتبٍ: يا بنيّ أنا بمثابة أمٍّ لك، وزوجي يُحبّك وكأنّك سرج ابننا وفقيدنا الغالي الذي كان صديقك، ونحن معاً نهتمّ بأمرك كثيرا وكما كنّا لا زلنا، أتذكر كم مرّة حاولنا إقناعك بعدم السفر إلى سيبيريا وكازاخستان خوفا عليك؟ وخاصّة بعد فقداننا لوحيدنا. نعرفُك منذ حوالى ثماني سنوات، وقد اعتدْنا عليك وكأنّك "سرج" نفسه، ولا نريد أن نراك مريضاً أو مرهقاً، وغرفتُك في بيتنا، أكان في الريف أو في المدينة، جاهزةٌ تنتظرك على الدوام. ولكنّني أراقبك عن كثبٍ منذ فترة طويلة، فأنت نحيلٌ جدّا وتُكثر من التدخين وشرب القهوة "مُثلّثة التكثيف" ودون أن تفطرَ صباحاً وهذا لا يجوز. احذر يا بني أن تمرض وتسقط طريح الفراش كما حدث معك بسبب نقص الفيتامين منذ سنتين بعد رجوعك من العمل في سيبيريا. عليك أن تهتم قليلا بصحتك، ولا أدري لماذا توقفت عن إحضار ملابسك لي لغسلها. فقلت لها شكراً سيدة زويا لا تهتمي فأنا بخير، وصدقاً، أنا لا أشعر حالي غريباً عنكما أنت والسيد فلاديمير، فأنتما أغلى أصدقائي لأنّ المرحوم سرج كان كأخي، كنتما هكذا وستبقيان على الدوام، ودليل ذلك أنّي مؤخّراً قد أمضيت خمسةَ أيامٍ مع السيد فلاديمير اساعدُه فيها في تصليح البيت الريفيّ وملحقاته، أمّا موضوع العمل في سيبيريا فقد ولّى وانتهى، عملت أربع سنواتٍ في الفصائل الطلابيّة، والآن ليس لدي الوقت الكافي لذلك، وبالنسبة إلى الغسيل فالأمر ليس بذي أهمية لأنّ الجامعة قد حلّت لنا المشكل بشرائها مجموعةً حديثةً من الغسالات.. وإذا ما احتَجت لغسل شيءٍ مهمٍّ فسأستعين بك. فسألتني كم بقي لك من الوقت؟ فأجبت: لقد بقي لي حوالى السنتين لإنهاء رسالتي والوقت يداهمني وأنا لا أحبّ التمديد، علماً أنّه وفق ما ذكره لي أستاذي، أنا  قد ظُلمت في مكانٍ ما، ذلك لأنّ الجامعة تُعطي عادةً منحةَ تحضيرٍ تمهيديّة لمدّة سنة قبل تسجيل الممنوح في الدكتوراه، وهذا لم يحصل معي. ولكنّه قال بالمقابل لا يوجد في الدنيا من يستطيع إنهاء رسالتي بتعقيداتها المعروفة بأقلّ من أربع سنوات ونصف وفق حساباته، وطلب منّي ألا أحرقَ المراحلَ وأن أترك له مهمّة التفاهم مع إدارة الجامعة بشأني، فقالت زويا أستاذُك صادقٌ وأنا أعرفه منذ تأسيس الجامعة، وهو يعرف قيمتَك ولن يفرّطَ بأمكانياتك ولا بمصلحتك، على الأقلّ، لأنّها تتقاطع مع سمعته العلميّة ونفوذه البحثيّ والأكاديميّ، فلا تُشغل فكرَك في موضوع التمديد، لأنّه إذا ما قال أستاذُك أربع سنواتٍ ونصف، فهذا يعني أربعَ سنوات ونصف، وكلمتُه نافذةٌ لا مفرّ. فطلبت كوباً كبيرا من القهوة "المثلّثة"، فبادرتني وهي تضع الكوبَ تحت الآلة، قائلةً: بالله عليك أخبرني هل معك نقود كفاية، وهل تريد السفر إلى لبنان؟ نقود، نعم معي فراتبي قد تضاعف تقريبا منذ انتقالي إلى مرحلة الدكتوراه، ذلك أنّني أساهم بمعيّة أستاذي في إجراء أبحاثٍ في النمذجة الرياضيّة لصالح كليّة الطبّ،

وهذا عمل بحثيّ مدفوع الأجر. كما أنّني أساعد الطلبةَ في معالجة مسائلهم الرياضيّة وقد علم نائبُ رئيس الجامعة للشؤون الاجتماعية بشكلٍ ما بالأمرِ، فصرف لي مكافأةً سنويةً تعادلُ راتبَ طالبٍ وأرسل رسالةَ تنويه. أما بالنسبة إلى السفر إلى لبنان فلا أريد ذلك، لأنّني منشغلٌ جدّاً وليس لدي متسعٌ من الوقت، فتحت السيدةُ زويا درجاً في طاولةٍ أمامها واخذت منه كيساً وناولتني إياه قائلةً ضع هذا في برّاد غرفتك، فهو بعض الكافيار الذي بيع البارحة هنا بغيابك، وقد حصلت لك على القليل منه. فشكرتُها وأردت أن أدفع الثمن فرفضت، وأصرّت أن تكون هذه العلبُ الثلاثُ التي يحتويها الكيسُ هديةً. أخذت كوبَ القهوة بعد أن دفعت ثمنه وشكرت السيدة زويا وخرجت إلى قاعة رواد الكافتيريا، وفوجئت بصديقي الهنديّ فيدجاي الذي سلّم عليّ قائلا انتظرني أستاذ محمد ريثما أُحضر فنجان قهوة، فابتسمت وأومأت إلى الصفّ الطويل من الطلاب والموظفين الذي تكوّن بثوانٍ معدودة طلباً للقهوة. وأشرت عليه أن يُحضرَ كوباً فارغاً  كي نتتقاسمَ  ما لدي من قهوة، فوافق. أحضر الرجل كوباً وجلسنا في ركننا المعهود نتبادل أطراف الحديث. أمّا فيدجاي، فهو طالبٌ موهوب من السنة الرابعة رياضيات بحتة، ولقد قمت بتدريسه بعضَ المواد بناءً على طلب أستاذي، ولكنّه يعاني من مشاكلَ إداريّة خطيرة قد تتسبّب بطرده من الجامعة، ذلك أنّ عدد ساعات تغيّبه مرتفعٌ جدا، وأكثرُ الأساتذة كانوا قد رفضوا استقبالَه في الامتحانات بسبب تغيُّبه الكلّي عن محاضراتهم. وكان قد قدّم عندي امتحاناً في النُظم الجبرية عندما طلب أستاذي منّي مساعدته في إجراء الامتحانات، فاكتشفتُ في هذا الطالب رياضيّا موهوباً. كان هذا الشاب الهنديُّ يؤمن بتوارد الأفكار، وقد قال لي إنّه على تواصل شبه دائم مع والده المريض. فلم أعلّق على الموضوع خشية جرح مشاعره. بادرني فيدجاي بالقول: لقد كنت محقّاً يا أستاذي في المسألة التي ناقشناها الأسبوع المنصرم، فقد بيّنت الحساباتُ الـمُضنية المباشرة التي أجريتُها أنّ منظومةَ المعادلات الناتجة عن خصائص الفضاء الـمُتناظر، ثُمانيِّ الأبعاد وثابتِ الإنحناء، تُفضي إلى سبع معادلات تكعيبيّة، حيث يكون عدد المجاهيل مساوياً لسبعة أيضا، فأخبرته أنّ هذه النتيجة التي كنت قد توقّعتها، تثبت من جديدٍ الميزةَ الجبريّة والهندسيّة والطوبولوجيّة للرقم سبعة، من خلال تعميم مفهوم شبه الكرة سباعية الأبعاد، في الفضاء الإقليدي ثُمانيِّ الأبعاد. فابتسمنا كلانا فرحاً، أما أنا فلأنّ فرضيتي وجدت برهانها الاستنباطيّ الدامغ بواسطة الحسابات المباشرة، أمّا فيدجاي فلأنّه أدرك أهميّة المسألة المطروحة وبعدها الفلسفي-التاريخي الذي تعود جذورُه إلى أعمال أويلر وكارتان وبوانكاري. فسألته ولكن كيف تمكّنت من إجراء الحسابات. لقد عملت بنصيحتك، حيث أثبت استقلاليةَ التعابير الجبريّةِ في الجهة اليسرى من المنظومة عن المتغيرات، فحسبت مشتقّاتها الجُزئيّةَ وأعدمتُها فحصلت على منظومةٍ من المعادلات المحدّدة. فتح فيدجاي حقيبتَه وأخذ منها رزمة ً كبيرةً من الأوراق من القياس الكبير، وأعطاني إيّاها. شكرته وصفنت قليلاً . فسألني بما تفكّر؟ قلت له: هذا جميلٌ ومفرحٌ، وكنت قد توقّعت النتيجة، ولكنني لن أستطيع تناولَ هذه الحسابات الطويلة لا في رسالتي ولا في مقالاتي العلميّة لأنّ حجمها يتعدّى المألوفَ، ينبغي البحثُ عن برهانٍ آخر، والبارحة حصلتُ على بعض النتائج المشجّعة في هذا المعنى... نظرت إلى الساعة فكانت العاشرة، لقد دهمني الوقتُ، لا شكّ أنّ خالد قد وصل! أخذت أشيائي والأوراق واعتذرت من صديقي الهندي وغادرت مسرعاً. وجدت صديقي خالد (وهو شاب من بلدتي) عند باب غرفتي ينظر إلى ساعته. فبادرته القول أهلا أستاذ خالد هل انتظرت كثيرا فقال لا وصلت لتوّي ولكن أنا على عجلةٍ من أمري، فَعَلَيِّ أن أمرّ على شركة الطيران في وسط المدينة. قلت له هل لديك ربع ساعة لي، فقال: كلّ وقتي ملكك فلا تعبأ بقولي سأنتظر قدر ما تشاء فأنت أبْدَى الناس... قاطعتُه شاكراً وأحضرت له قنينةَ مرطبات من البرّاد، وأنهيت تأريخَ رسالتي ووضعتُها في مغلّفٍ وسألتُه أيمتى ستعود؟ فقال في أواخر شهر آب. فقلت لع: إذا كان بمقدورك أن تُحضرَ لي بعضَ الصحون البلاستيكية المزيّنة برسوم أثرية لبنانية سأكون لك من الشاكرين. ناولتُه الرسالةَ والكيسَ الذي أعطتني إياه السيدةُ زويا، فسألني ما هذا؟ فقلت هديّة صغيرة لك. تفحّص الكيس وقال: كيف حصلت على هذا الكافيار. قلت: ليس الأمرُ مهمّا، فهو لك. ودّعت صديقي خالد وبدأت العمل. كان صيفُ موسكو حارّا جدّا وهذا أمرٌ أزعجني وكنت طيلة الوقت أتمنّى تساقطَ المطر لعلّه يحدّ من تأثير الحرارة على أعصابي، وكانت إنتاجيةُ عملي تزداد ليلا ًوتنخفض نهاراً بصورة معاكسة لحرارة الجوّ. كنت ألتقي دوريّا فيدجاي في الكافتيريا حيث نحتسي القهوة معاً ونناقش مستجدات البحوث في الرياضيات، وكان قد عرض عليّ شراءَ بعض كتبه في الرياضيات وهي نادرةُ الوجود في المبيع، وعلمت إثر ذلك أنّ الجامعة قد أوقفت راتبَه وفصلته، فحاولت مساعدتَه من خلال أستاذي الذي كان ردّه: لقد فات الأوان يا محمد. كان هذا الشاب الهنديّ عزيزَ النفس فقد رفض مساعدتي ورفض حتّى أن أدفعَ عنه ثمنَ القهوة، فاشتريت منه الكتبَ التي عرضها للبيع وبعدها بقليل اشترت الجامعةُ له بطاقةَ سفرٍ فعاد إلى بلاده في الخامس عشر من آب، لقد حزنت لفقداني صديقاً موهوبا في الرياضيات. 

في الثاني والعشرين من آب كنت في ضيافة السيّدة زويا وزوجها في منزلهما في ريف موسكو، ففي هذا اليوم منذ أربعين عاماً عقد صديقاي قرانَهما، إنّها الذكرى الأربعين  لزواجهما. لقد أمضيت عندهما يومين، تجولت خلالهما مع السيّد فلاديمير في الغابة، وتسبّحنا في النهر، واصطدنا الأسماك. وقد أقام فلاديمير وزويا حفلةَ شواء في  المناسبة دعَوا إليها الجيران. وهما طبيب أعصاب وزوجته التي تدرّس اللّغة اليونانية في جامعة موسكو، وطيار مدني شاب على خطوط أيرفلوت مع زوجته وهي راقصة باليه مشهورة. لم أعرف ماذا أصابني، لقد كنت على مدى هذين اليومين  شاردَ الفكر لا أستطيع التركيزَ على ما يدور حولي من أحداث، فكان كلّما بادرني أحدٌ بقولٍ، أبادره بالردّ: "لم أفهم،كرّر القولَ من فضلك". لقد تساءلت يا سادة، ترى هل أحلامُ اليقظة موجودةٌ بالفعل؟ إذ إنّه في اليوم الأوّل من ذينِك اليومين اللذين أمضيتهما في منزل أهل صديقي المتوفّي، سرج، وفي يقظتي الكاملة والأكيدة شهدت في الغابة ما يُشبه أحلام اليقظة: بينما كنت جالساً تحت شجرةٍ ضخمةٍ منتظراً عودةَ فلاديمير من رحلته في الغوص في مجرى النهر. خُيّل إليّ أنّني  رأيت والدي يستفيق في فراشه من نومه العميق، ويجلس جاحظَ العينين حزينَ المحيّا متثاقلاً ويسأل والدتي ما هو هذا اليوم، فتجيبه والدتي إنّه يوم الأربعاء، فيقول لها بقي للرحيل يومان ومن ثم يبادرني القولَ سأمرُّ عليك يا بني قبل الرحيل، باكراً يوم الجمعة فانتظرني، ولا تخف ولا تحزن، ومن ثم  رأيته يستغرق في النوم من جديد. ونظرت من حولي فرأيت فلاديمير يمشي في اتجاهي وفي يده سمكتان كبيرتان... وفي اليوم الثاني تكرّر المشهدُ خلال حفل الشواء، حيث خيّل إلي أنّ والدي يستيقظ من سباته ويسأل والدتي عن اليوم، فتقول له اليوم الخميس، فيقول لها غداً يوم الرحيل، وينظر إلي قائلاً غداً يا بني عند الظهيرة عند الظهيرة.. لا تخف ولا تحزن. استفقت من شرودي على صوت زويا وهي تقول لي الضيوف لا يحبون الشواء المحروق انتبه انتبه ..فسارعت  إلى إبعاد الشواء من فوق الجمر. شعر فلاديمير وزويا بأنّ وضعي غير طبيعيّ، حتى أنّ فلاديمر سألني إذا ما كانت نوبات الغياب عن الوعي تنتابني أحياناً، فطمأنته مؤكّداً له أنّها قد اختفت نهائيا عندما توقفت عن ممارسة لعب الشطرنج. فاهتمّ الجارُ (الطبيب النفسي) بالأمر وسأل زويا عن الموضوع فأخبرته باختصار بأنّني كنت منذ ثلاث سنوات من المشاركين في مباراةٍ للحصول على لقب
"مرشح ماستر" في لعبة الشطرنح وأنّني قد أرهقت نفسي بالتحليل ودراسة الوضعيّات وبأنّني قد نلت في المباريات نقطةً ونصف من أصل ثلاث نقاط (وفسرت زويا: أي أنّه هزم واحدا من حملة لقب "مرشح ماستر" وخسر أمام الثاني وتعادل مع ثالث ) وللأسف هذه النقاط كانت غير كافية للحصول على اللقب المنشود وليس هنا بيت القصيد، واخبرت زويا الدكتور بأنّني بعد ذلك  بدأت أتعرّض لنوبات فجائية من فقدان الوعي. مما استدعى دخولي إلى المستشفى حيث تبين أنّ الأمر سببه الإرهاق الشديد، فمُنعت من لعب الشطرنج ومن قراءة المؤلفات الرياضية لمدة أسبوعين. كما ذكرت له كيف أوضح لي طبيبُ الأعصاب الذي عالجني أنّ عليّ أن أختار ما بين الرياضيات والشطرنج وأنّه لا يجوز لي أن أمارسهما معاً لأنّهما يرهقان جهازي العصبي الذي خلافا للناس العاديين لا يتوقّف للراحة ويستمرّ بالعمل حتى خلال نومي. نظرت إلى ساعتي كان الوقت قد شارف على الرابعة فاستأذنت الحضور وصعدت إلى غرفتي حيث جمعت حاجياتي وبدّلت ملابسي ونزلت فوجدت زويا تنتظرني عند أسفل السلّم، فبادرتني بالسؤال هل أنت على ما يرام؟ فقلت بالتأكيد أنا بينكم دائما على ما يرام؛ قالت البارحة واليوم أنت لم تأكل شئاً البتة والكل قد لاحظوا ذلك، لاحظوا أنّك شربت العصير فقط. فلاديمير والضيوف منشغلو الفكر عليك. أجبتها صدقا أنا بخير ولا أشكو من أي توعّك، ولكنّني منشغل الفكر بمسألةٍ رياضية تمكنت من حلّها بأساليب بدائيّة وأحاول تخطّي هذه الصعوبة عبر ردّ المسألة إلى أصولها الأوّلية. وهذا أمر صعب يشتت عمل الحواس ويرهقها. فقالت جارنا الطيار سيوصلك هو وزوجته إلى محطّة القطار لقد أصرّا على ذلك، يبدو أنّهما يودّان التعرّف عليك عن قرب، قلت لها أشكرك وأشكرهما ولكن لا ضروة لإزعاجهما كان بمقدوري طلب تكسي لتقلني إلى المحطّة. في طريقنا إلى المحطّة سألتني أوكسانا وهي زوجة الطيّار المدعو فاسيلي هل ستسافر إلى بيروت قريباً؟ أجبتها لا أدري ولكن لماذا تسألي؟ أجابتني يحقّ لي ولفاسيلي القيام برحلة مجانية من الأيرفلوت وكنّا نفكّر بالذهاب إلى بيروت. فقلت لها أهلا وسهلا، عليكما أن تخبراني قبل ذلك، فحتّى ولو لم أكن في بيروت سأطلب من أصدقائي أن يهتمّوا بكما وأن يرافقوكما إلى بعلبكّ وباقي المناطق الأثرية. وكتبت لها عنواني البريدي ورقم استعلامات بيت الطلاب، حيث يمكنها أن تترك لي رسالة عبر الهاتف، لأنّ كلّ العاملين هناك من أصدقائي، وسيكونون حريصين على إبلاغي الفوري بمضمون الرسالة للاتصال بكما. فقالت أوكسانا لزوجها هل سمعت فقال نعم  وتابع نحن نحبّ الأصدقاء وبيتنا في موسكو أو هنا في الريف مفتوح لك يا صديقي عندما تشاء. فشكرته. ودعت اوكسانا وفاسيلي على أمل اللقاء في موسكو قريبا. وصلت إلى غرفتي قرابة السابعة مساءً وقد كان الجوّ حارّا بعض الشيء، وضعت أشيائي في غرفتي وأسرعت إلى الكافتيريا فابتعت سجائر ومرطبات وكوباً من القهوة. سألتني السيدة ناديا التي تعمل بالمداورة مع زويا ألم تذهب إلى الريف للاحتفال بعيد زويا وزوجها؟ فأجبتها نعم، ولقد عدت للتوّ. فقالت اسمع لا أريد أن أكذب عليك، فأنا أعرف أنك قد كنت عندهما، بودّي أن أخبرك أنّهما يحبّانك كثيراً وقد اتصلا بي قبل قليل ليطمئنا على وصولك. شكرتها وعدت أدراجي إلى غرفتي وتذكرت حديث والدي لي عن الغربة، حيث قال لي: بني ستكون من المحظوظين في الغربة، وكلما زاد بعدُك عن الوطن زادت حظوظُك بالتعرّف على أخيارٍ يساعدونك ويهتمون بأمرك، وهذا صحيحٌ مئة في المئة. هذا مدهش ولكن لا أجد له تفسيراً شافياً. حاولت القراءة فلم أفلح، حاولت متابعة بعض الحسابات والبراهين التي كنت قد بدأتها ولكن أيضا لم أفلح. شعرت بضغطٍ كبير على روحي، وبتشتّت حواسي وقدرتي على التركيز، فاستلقيت على السرير دون أن ابدّل ثيابي وأغمضت عينيّي، فإذا بالحلم يعاود احتلالَ مخيلتي: أبي يصحو من سباته العميق يفتح عينيه اللتين كانتا هذه المرّة صافيتين كعيون طفل، زرقاوين كقبة السماء في بلدتي في صبيحة أيام الصيف. كانت على وجهه قد ارتسمت ابتسامةٌ مضيئةٌ لم أر مثيلاً لها من قبل، لقد كان أبي ولكنّه كان فتيّاً تشعُّ ملامحُه شباباً ونضارةً  كأنّما خلع رداءَ العجز واستبدله بثوب الشباب والنضارة. نهض من فراشه فإذا هو ببذّته الكحلية الأنيقة وقميصه الأبيض، فقال: لا تخف يا بني لقد أتيت لأودّعك قبل رحيلي، ولا تحزن،  وكن حسنةً جاريةً لنفسك ولي في هذا العالم المنتهي. لقد منّ اللهُ علَيَّ بأنْ سمِعَ دعائي بالمغادرةِ يوم الجمعة، وبأنْ مكّنني من التواصل معك وزيارتك قبل رحيلي. لقد خيّل إلي أنّ ما يجري بيني وبين والدي إنّما يجري في عالمٍ لا تحده الأشياءُ وخارج الأمكنة والأزمنة ولا يمكن وصفه بلغاتنا الكونية المعروفة... استيقظت على صوت عالٍ لتحطم زجاج ففتحت عيوني ونظرت حولي فوجدت المرآة التي أشتريتها منذ ثماني سنوات  عند حلولي في عرفتي قد سقطت وتحطمت إلى قطع صغيرة، لم أفهم كيف حصل هذا حتّى اليوم. لقد أدركت أنّ والدي ربّما يكون قد توفّي. نظرت إلى الساعة فكانت الواحدة ظهرا. هل يُعقل أن أكون فد نمت أكثر من 12 ساعة متواصلة؟

بعد مُضيّ ثلاثة أيام، وعند رجوعي من لقاءٍ مع استاذي وجدت على بابي ورقةً  كتب عليها : لقد رجعت من لبنان ولك أغراص عندي، سأكون في غرفتي طيلة أيام الأسبوع بعد السابعة مساءً. خالد. تركت أشيائي في الغرفة وخرجت قاصدا غرفة خالد. أوقفت تاكسي وأعطيته العنوان ، فقال السائق: هل لديك طريق مفضلة ؟ قلت له نعم ، خذ التحويلة باتجاه جادّة لينين ومن هنالك تابع الطريق القويمة نحو الضاحية الجنوبية الغربية. أوصلني التاكسي إلى بيت الطلاب وبحثت في مفكّرتي فوجدت رقم غرفة خالد الذي استقبلني بالترحاب وأراد تحضير القهوة أو الشاي ولكنني رفضت لضيق الوقت، فأحضر ما كنت قد طلبته منه في كيس من البلاستيك الشفاف، فقلت له هنا لا يوجد رسالة، فأجابني ليس ثمة رسالة. فقلت: بلى الرسالة معك وأنا أعرف أنّ والدي قد مات، فاعطني الرسالة. فقال: العوض بسلامتك، وأخرج من جيب سترته الداخلية رسالة مطويّة ومعلّمة بخط أسود على زاويتها اليمنى. وقال أنا آسف لقد قيل لي أن أحاول عدم إخبارك بالأمر، ولكنّك علمت دون الرسالة فكيف؟ فقلت له والدي أخبرني بوفاته! في اليوم الثاني كنت على متن طائرة الايرفلوت المتجهة إلى بيروت، وأكثر ما استغربته عند وصولي، هي قصة والدتي التي روت لي  كيف كان والدي يستيقظ للحظات فيسألها ما هو هذا اليوم فتقول له، فيقول بقي كذا وكذا، إلى أن أتى يوم الجمعة، فاستيقظ وسألها ما هو هذا اليوم، فقالت اليوم الجمعة، فقال لها اليوم هو يوم الرحيل. فأقام الناس صلاة الجمعة، وصلّوا بعد ذلك على النعش  وآجروا في جنازة يوسف البيضاء الملقب بالنبي يوسف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق